أنت هنا

القائمة:

 

قراءة تأمليّة لإيقونة "تجلّي الربّ على الجبل"

أولاً – مُقدّمة خاصّة بالإيقونة:

لا تهدف الإيقونة أبداً إلى أن تكون صورةً "فوتوغرافيّةً"، إذ ليس الهدف منها (ومن الفنّ الإيقونوغرافيّ عامّةً) "إقتناص" لحظة زمنيّة مُعيّنة لحفظها في ذاكرة التاريخ، بل إنها تقوم بالدور نفسه الذي تقوم به النصوص الكتابيّة المُقدّسة في نشر الكرازة الإنجيليّة. وهي تستند في الأساس إلى هذه النصوص، لتُقدّم لنا مضمونها بشكل قراءة "بصريّة – روحيّة"... ننظر إليها بالعين البشريّة لكي نتأمل بها بالعين الروحيّة، عين الإيمان بالسرّ المُعبَّر عنه بالإيقونة، فهي بهذا المعنى "وسيلة تبشيريّة"... وفي نظرة شاملة إلى كافة مواضيع الإيقونات (السيّد، السيّدة، القديسون...)، يُمكننا القول بحقّ إن الإيقونة هي بمثابة "نافذة العالم الأرضيّ إلى العالم العُلويّ".

وإيقونتنا اليوم تُخبِرنا عن محطّة هامة جداً وفريدة من نوعها في مسيرة الإبن المُتجسّد الأرضيّة، ألا وهي "تجلّي لاهوته عبر ناسوته أمام تلاميذه"، قُبيل إقباله على الآلام الطوعيّة. ولحدث "التجلّي" إيقونتان رئيسيّتان متشابهتان، يُميّز بينهما تفصيل واحد سنأتي على ذكره في القسم الأخير من شرحنا. وقد إخترنا لتأملنا إحدى الإيقونات العريقة "للتجلّي"، وهي تنتمي إلى سلسلة إيقونات خاصّة بالأعياد السيّديّة، من ضمن مجموعة الإيقونات الخاصّة بدير ستافرونيكيتا (جبل آثوس – اليونان)، وهي منسوبة إلى ثيوفانيس "الكريتيّ"، وتعود إلى القرن السادس عشر.

------------------------------------------------

ثانياً – وصف سريع لمُحتوى الإيقونة:

تُظهِر لنا إيقونة "التجلّي" ستة أشخاص، هم الواردون في الرواية الإنجيليّة، منقسمين إلى مجموعتَين. في المجموعة الأولى (المُستوى العُلويّ – السماويّ)، نرى الربّ يسوع "إبن الله" مُحاطاً بهالة نورانيّة كبيرة، وإيليّا "الغيور على الله" عن يمينه، وموسى "مُعاين الله" عن يساره. وفي المجموعة الثانية (المُستوى السُفليّ – الأرضيّ)، نرى بطرس "الصخرة"، ويعقوب ويوحنا "إبنَي زبدى" (المُلقبَين ب"إبنَي الرعد"). يقف الثلاثة الأولون، كلّ على رأس مرتفَع جبليّ (القمة)، أما الثلاثة الآخِرون، فهُم مُنطرِحون أرضاً على قاعدة الجبل الأوسط (القعر)، ويبدو عليهم الإضطراب والخوف.

------------------------------------------------

ثالثاً – الخلفيّة "الكتابيّة" للإيقونة:

تستند إيقونتنا إلى رواية حدث "تجلّي الربّ على الجبل"، الواردة في الأناجيل "الإزائيّة" الثلاثة. إذ نقرأها في متى (17: 1-9)، وفي مرقس (9: 2-9)، وفي لوقا (9: 28-36). إن جوهر الرواية هو ذاته عند الثلاثة، مع بضعة فوارق في التفاصيل عند لوقا ("بعد ثمانية أيام" بدلاً من ستّة، يسوع يُصلّي، موضوع كلام موسى وإيليّا عن "خروجه" العتيد، التلاميذ نيام في البداية، التلاميذ تكتّموا عن الخبر بإرادة منهم بدلاً من طلب يسوع إليهم بذلك)... من الناحية "الكتابيّة"، يأتي حدث "التجلّي" مباشرةً بعد إعتراف بطرس ب"مسيحانيّة" يسوع، وبعد إنباء يسوع تلاميذه بآلامه العتيدة وموته وقيامته. أما زمنيّاً، فهناك بضعة أيام تفصل بين الحدثَين الأولَين وحدث "التجلّي"، وقد بادر الربّ يسوع إلى أخذ ثلاثة من تلاميذه، تحديداً بطرس ويعقوب ويوحنا (الذين جعلهم السيّد بمثابة الدائرة الضيّقة حوله، وشهوداً لأحداث معيّنة من حياته) إلى "جبلٍ عالٍ"، حيث أظهر لاهوته أمامهم بشكل نورانيّ، مُثبتاً بذلك "هويّته" الإلهيّة التي طالما ظهرت من خلال آياته، ومُظهِراً لهم نور قيامته المجيدة بشكل مُسبق.

------------------------------------------------

رابعاً – القراءة الروحيّة لرموز ومعاني الإيقونة:

* يلفتنا اللون الذهبيّ الذي يُجلّل خلفيّة مشهد "التجلّي"، على غرار الغالبيّة العُظمى من الإيقونات البيزنطيّة الخاصّة بالربّ يسوع، لا سيّما إيقونات المحطّات الهامّة من حياته وكرازته (الأعياد السيّديّة مثلاً). ولا عجب، فاللون الذهبيّ يرمز إلى الأبديّة وإلى المجد السماويّ المُرافق للربّ يسوع، الذي أينما حلّ، يحلّ معه "المجد الذي ليس من هذا العالم". كما أن اللون الأحمر القاني يُظلّل المشهد كلّه، دلالةً على المجد الملوكيّ ذي المصدر الإلهيّ، وهو كأنّما يُشكّل "رداءً أرجوانيّاً" يلفّ الحدث... كيف لا، والحدث لا يقتصر فقط على "تجلّي لاهوت الربّ يسوع عبر ناسوته"، بل يتضمّن أيضاً شهادة الآب السماويّ (كما في عماد يسوع)، وحضور الروح القدس من خلال الغمام الذي ظلّل الجبل... فالثالوث القدوس، الواحد في الجوهر، هو حاضر بمجده في حدث "تجلّي" مجد الإبن، كما كان حاضراً في حدث "إعتماد" الإبن عند إنطلاقة كرازته الملكوتيّة.

* في القسم العُلويّ من الإيقونة، المُميّز بهدوئه وسلامه (وقد أسميناه أيضاً ب"السماويّ" لأن الجبل تَحوّل إلى "سماء")، يتصدّر السيّد له المجد المشهد بأسره، إذ إنه بالطبع محور الحدث العظيم. إنه واقف على رأس الجبل، كأنه "منارة" مُشِعّة على العالم، ولا عجب، لأنه "هو نور العالم" (يو 8: 12). تُحيط بشخصه هالة كبيرة مُستديرة ومزدوِجة من النور، هو "المُلتحِف بالنور كرداء" (مز 103: 2)، دلالةً أولاً على حضور أقنومَي الآب والروح القدس في الحدث، وثانياً على كونه "نوراً" للعالمَين السماويّ والأرضيّ... تحوي هالة النور الكبيرة هذه، هالتَين نورانيّتَين مُربّعتَي الزوايا، الأولى ترمز إلى "نور البشارة" المُزمع أن يصل إلى "أربعة أصقاع الأرض"، والثانية تُشير إلى سيادة الربّ يسوع على أصناف الكائنات كافةً. تجدر الإشارة إلى أنه في بعض الإيقونات الأخرى، تنبثق من الهالة الكُبرى، هالة نور مثلّثة الأضلاع، رمزاً للثالوث القدوس الحاضر في الحدث العظيم، كما عبر تدبير الربّ يسوع بأكمله.

تظهر على وجه السيّد علامات الجديّة، التي يفرضها الحدث الجلل، فهو الإله المُتجسّد الذي يُظهِر مجده بإرادة منه... تُحيط برأسه الهالة النورانيّة المُعتادة، المُميّزة بعلامة الصليب في خلفيّتها (دلالةً على رسالته "المسيحانيّة" التي لن تكتمل إلا عبر الآلام والصليب)، وعليها كتابة "أو أون" اليونانيّة، التي تعني بالعربيّة "الكائن"، وهو معنى التعبير الذي إستخدمه الربّ الإله في تعريفه عن نفسه لموسى قديماً. وقد أصبحت هذه الهالة بمثابة "العلامة الفارقة" للسيّد، و"هويّة خاصة" به... كما يبدو مُلتحِفاً برداء أبيض اللون، يرمز إلى النور والنقاء والطهر، ولكن أيضاً إلى المجد والفرح والحياة. وهذا ما نراه جليّاً في إيقونة "الإنحدار إلى الجحيم"، حيث يبدو الربّ مُرتدِياً الحلّة البيضاء، ضمن هالة نورانيّة كبيرة، وهو يقيم المائتين منذ الدهر. كما نرى الملاك المُبشِّر بالقيامة يلبس الحلة البيضاء، على ما جاء في الروايات الإنجيليّة. من هنا، جاء التقليد القديم القاضي بإرتداء الثوب الأبيض من قِبَل المُعمّدين حديثاً، دلالةً على الحياة الجديدة بالمسيح، الحياة على ضوء نور القيامة.

ينظر السيّد إلى كلّ من يتأمل بحدث "تجلّيه على الجبل"، أي إلى كلّ واحد منا، رافعاً يده اليُمنى على شكل بركة (كما في الغالبيّة العُظمى من إيقوناته)، ومُمسِكاً بيده اليُسرى بالمخطوط الملفوف الشهير الذي يرمز إلى بُشرى الخلاص التي حملها إلى عالمنا الهالك بخطيئته. على أقدام السيّد، يُضيء الجبل بشكل لافت (آخذاً من نوره)، كما يبدو مليئاً بالحياة بدليل وجود بعض النباتات على إمتداده (آخذةً منه الحياة)، على عكس الجبلَين الجانبيّين.

* على جانبَي السيّد، يظهر موسى "مُعاين الله" عن يساره (حاملاً لَوحَي الشريعة)، وإيليّا النبيّ "الغيور على الله" عن يمينه. هما يرمزان إلى "الشريعة والأنبياء"، وقد شاهدا قديماً مجد الله، وحضورهما اليوم هو شهادة أن الربّ المتجلّي على الجبل هو نفسه "مُعطي الشريعة والنبوءات"، وأيضاً مُحقّقها وكمالها في نفس الوقت... كذلك، إنهما يُمثّلان الأحياء من خلال إيليّا "الحيّ" (الذي صعد بمركبة ناريّة...)، والأموات من خلال موسى (الذي رأى أرض الميعاد من بعيد، ومات قبل أن يدخلها). هما أهمّ وجهَين من وجوه "العهد القديم"، وقد إختبر كلاهما حضور الربّ الإله في جبل سيناء (أو حوريب)، وها هما اليوم كما لو في تكرار للماضي أي في "سيناء جديدة"، يقفان بشكل منحنٍ إجلالاً للربّ الإله، وقد جاءا يكلّمانه عن "خروجه" المزمِع أن يتمّ (لو 9: 31)، ألا وهو قبوله إلى الآلام الطوعيّة في المدينة المقدّسة. أخيراً، يبدو النبيّان واقفَين على مرتفعَين قاحلَين يتميّزان بالفراغات وباللون القاتم (رمزاً إلى نقصان "العهد القديم")، على عكس "جبل يسوع" المُضاء بالنور الإلهيّ (رمزاً إلى "العهد الجديد" الذي يُكمّل "الشريعة والأنبياء"، والذي يُجسّد الحضور الإلهيّ الأبديّ مع شعبه).

* في القسم السُفليّ (الأرضيّ) من الإيقونة، يظهر التلاميذ الثلاثة على قاعدة "جبل التجلّي"، وهم في حال من الإضطراب والخوف. وحالهم هذه تُناقِض حال القسم العُلويّ (السماويّ) من المشهد المجيد... هي صورة عن حال هذا العالم (الأرضيّ) الذي لا يستطيع تقبّل "النور الإلهيّ" بسهولة، فالكثير من البشر "يُفضّلون الظلمة على النور، لأن أعمالهم شريرة"... تقول الروايات الإنجيليّة إن التلاميذ إنكبّوا على وجوههم ودَبّ الخوف فيهم، خصوصاً عند دخولهم الغمام وسماع صوت الآب... في هذا السياق، يظهر بطرس مُلقىً على الأرض، ولكن بشكل مُستقيم، وهو يُغطّي وجهه بيد، ويُشير إلى "فوق" باليد الأخرى. هو الآن مُضطرِب، لكنه قبل هُنَيهة، كان يعيش لحظات "غبطة" ناتجة عن الحضور الإلهيّ، حتى أنه إقترح على السيّد إقامة ثلاث مظال... أما يوحنا، فهو يُعرَف من صغر سنّه، وهو مُلقىً أرضاً في الوسط بشكل مقلوب، أي عكس إتجاه الجبل، لا يفهم ماذا يجري. فيما يعقوب أخوه ليس أفضل حالاً، وهو في نفس الوضعيّة التي ليوحنا. تجدر الإشارة إلى أن التلاميذ لا ينعمون ب"هالة البرارة" الخاصّة بالأبرار والقديسين، لأنهم لم ينالوا الروح القدس بعد.

* أخيراً، لا بدّ من ملاحظة كنّا قد أشرنا إليها في مقدّمة المقالة، ألا وهي أن بعض الإيقونات تُظهِر في المسافة الوسطيّة بين قاعدة الجبل والقمّة، مشهدَين جانبيّين إثنين: الأول يُظهِر يسوع وتلاميذه الثلاثة، وهم صاعدون إلى الجبل، وهم لا يعلمون ما سوف يكون. والثاني يُظهِرهم نازلين بعد حصول حدث "التجلّي"، وعلامات الخوف والتعجّب لا تزال بادية على وجوههم.

------------------------------------------------

خامساً – الخُلاصة الروحيّة:

في الخلاصة، يُمكننا أن نَصِف "التجلّي" بكلمة واحدة: النور.

إنه نور الألوهة السرمديّ، "الذي لا يُدنى منه"، والذي "لا يراه إنسان ويبقى حيّاً". لقد عاين موسى وإيليّا هذا المجد قديماً على قدر ما سمح به الله، وها هما اليوم يشهدان له وهما في المجد مع الأبرار (وإلا لما كان الربّ سمح بظهورهما في تجلّيه). إن هذا النور السرمديّ، المُستتِر اليوم في ناسوت الإبن، يظهر للتلاميذ "على قدر ما إستطاعوا" (كما نُرنّم في طروباريّة العيد)... يظهر من خلال الجبلة البشريّة الضعيفة التي لبسها الأقنوم الثاني للثالوث القدوس بكامل إرادته، لكي يُحقّق من خلالها الخلاص للبشريّة الخاطئة، فيُعيد بذلك بهاء "الصورة التي سقطت قديماً".

اليوم، قد شاء من هو "النور الحقيقيّ الذي يُنير كلّ إنسان آتٍ إلى العالم"، أن يُظهِر ولو للحظات، شيئاً من لاهوته "العابر لناسوته" على الجبل، قبل إقباله على الآلام الطوعيّة لأجل خلاصنا... بعد إنبائه تلاميذه قبل بضعة أيام بالمخاض الآتي وبقيامته العتيدة من بين الأموات، شاء بواسع رحمته أن يُعزّي تلاميذه من خلال "تجلّيه"، "لكي يعلموا إذا ما رأوه مصلوباً، أنه يتألّم بإختياره"... تجدر الإشارة إلى أن يوحنا الإنجيليّ هو الوحيد بين الإنجيليّين، الذي لم يأتِ على ذكر حدث "التجلّي"، وذلك لأن إنجيله يتكلّم عن "النور الإلهيّ"، من بدايته إلى نهايته. كما أن رسالته الأولى تُركّز على هذا الموضوع بشكل خاص: "إن الله نور..."، "من أحبّ أخاه، فهو ثابت في النور...".

وهنا لا بدّ من كلمة ختاميّة مُهمّة، وهي أن النور الذي ظهر أمام عيون التلاميذ الترابيّة، ليس إلا الصورة الماديّة (كصورة نور الشمس مثلاً، أي نور "فيزيائيّ"، إن صحّ التعبير) لِما هو أسمى بكثير، وفوق المادّة... فكما أن النور الماديّ هو حياة للعالم المخلوق بالمعنى الفيزيائيّ، كذلك النور الإلهيّ هو الحياة الحقيقيّة للإنسان، للنفس البشريّة. ولنا مثال في شخص الأعمى من ناحية البصر (المُظلِم خارجيّاً)، ولكن السليم البصيرة والإيمان (المُستنير داخليّاً)، وهذا هو المُهمّ في عينيّ الربّ.

 

بقلم الاخ  توفيق ناصر (خريستوفيلوس)