أنت هنا

القائمة:

 
 

الأحد 13 أيلول 2020

الأحد الذي قبل الصليب – "رفع إبن البشر".

نقرأ فيه الإنجيل بحسب يوحنا (يو 3: 13-17)، وفيه يُعلن الربّ يسوع حتميّة رفع "إبن البشر" لأجل خلاص العالم، كعلامة قُصوى لحُبّ الله تجاه الجنس البشريّ.

مُلخّص عبرة إنجيل اليوم:

* الله يُحبّ العالم (البشريّة خليقته) ويريد خلاصه، لا إدانته.
* حبّ الله وصل به إلى حدّ إرسال إبنه الوحيد ("نزل من السماء") لتحقيق هذا الخلاص.
* الخلاص سوف يتمّ عبر "الطريق الصعب"، من خلال رفع "إبن البشر" على الخشبة.
* ثمرة هذا الخلاص هو "الحياة الأبديّة" لكلّ من يؤمن به.

************************************************

أولاً – مُلاحظة طقسيّة هامّة:

في إطار إستعدادها للإحتفال بعيد "رفع الصليب الكريم المُحيي" (وهو عيد سيّديّ من الدرجة الأولى، مُبطِل لخدمة القيامة)، تُخصّص الكنيسة هذا الأحد، وهو الأحد السابق للعيد المذكور، ويقع بين 7 و13 أيلول، ليكون بمثابة تهيئة لهذا العيد العظيم... تجدر الإشارة إلى أن هذا الأحد يُشكّل مع "عيد الصليب" و"الأحد الذي بعد الصليب"، حلقة واحدة متكاملة، أسبوعاً إحتفاليّاً بالصليب رمز إنتصار المسيح على الموت، وأسبوعاً إفتتاحيّاً لِما نُسمّيه ب"زمن الصليب"... من هذا المُنطلَق، إختارت الكنيسة أن تقرأ علينا في الليترجيا الإلهيّة لهذا الأحد، مقطعاً إنجيليّاً مأخوذاً من "لقاء يسوع مع نيقوديموس"، حيث يُكلّمنا السيّد عن حتميّة رفع "إبن البشر" على الصليب لأجل خلاص العالم، بينما في ليترجيا "الأحد بعد الصليب" سوف نقرأ مقطعاً إنجيليّاً، يُكلّمنا الربّ فيه عن حتميّة حملنا نحن للصليب إن أردنا إتّباعه، لأنه لا تلمذة للسيّد دون التشبّه به، والأهمّ أنه لا قيامة بدون الصليب... الجدير ذكره أخيراً أن "زمن الصليب" في الطقس البيزنطيّ يمتدّ تقليديّاً حتى عشيّة بدء "صوم الميلاد الأربعينيّ" (14 تشرين الثاني).

------------------------------------------------

ثانياً – القراءة التأمليّة لإنجيل هذا الأحد:

إنجيلنا لهذا الأحد هو جزء من حديث طويل دار ليلاً بين يسوع ونيقوديموس. وكان هذا الأخير فرّيسيّاً عالِماً في الشريعة، وقد أصابته الحيرة بعد سماعه تعليم يسوع ورؤية آياته... فأخذه فضوله ليلاً إلى يسوع (بعيداً عن الأنظار)، وكان هذا الحديث اللاهوتيّ المكثّف، حيث ينقل إلينا يوحنا الإنجيليّ تعليماً لاهوتيّاً كاملاً على لسان يسوع، يُعتبَر بمثابة خُلاصة لرسالة "الكلمة المُتجسّد" في هذا العالم. وهذا التعليم يشمل نقاطاً عديدةً مُلفتةً ("الولادة من فوق"، "رفع إبن البشر"، "رمزيّة الحيّة النحاسيّة"، "خلاص العالم لا إدانته"...)، ويُمثّل رؤية واحدة متكاملة للمنطق الإلهيّ (المُغاير كلّيّاً عن منطق البشر)، و"خريطة طريق" للتدبير الخلاصيّ، الذي جاء الربّ يسوع يُرسي دعائمه، في ما يُسمّيه هو "ملكوت الله". وسوف نتأمل حصراً ببعض الأفكار ضمن إنجيل اليوم.

* "لم يصعد أحد إلى السماء، إلا الذي نزل من السماء..."

يؤكّد الربّ يسوع بكلامه هذا، أن هناك شخصاً واحداً نزل من السماء بدايةً، ثم عاد فصعد إلى السماء، وهو أساساً "في السماء"... معروف أن تعبير "السماء" يرمز إلى الله نفسه، ففي الأناجيل مثلاً (ولا سيّما عند متى)، تعبير "ملكوت السماوات" هو مُرادف ل"ملكوت الله". وفي مكان آخر، يتكلّم الربّ يسوع عن "السماء عرش الله، والأرض موطىء قدمَيه" (متى 5: 34-35)... إن "الذي نزل من السماء" يُشير إلى نفسه بالطبع، وهو يُكلّم نيقوديموس (ويُكلّمنا). والبُعد الذي يحمله كلامه، هو أن الإنسان لا يُمكنه معرفة الله بمجهوده الخاص، لكن الله (ساكن السماء) هو الذي يكشف عن ذاته للإنسان، وهذا ما جاء لأجله "إبن الله" صائراً "إبن الإنسان". وهذه فكرة مركزيّة عند يوحنا، حيث يتناولها منذ مُقدمّة إنجيله "الكلمة صار بشراً... الإبن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو أخبر" (يو 1: 14 و18). بالنهاية، كلّ تاريخ الخلاص هو عبارة عن كشف الله لذاته، من خلال الأنبياء والمُرسَلين أولاً، ثم في ملء الأزمنة من خلال الإبن المولود أزليّاً من الآب، الذي أعلن لفيلبّس عشيّة آلامه: "من رآني فقد رأى الآب".

فكرة أخرى في ما خصّ "الصعود" و"النزول"، فلا ننسى أن الأناجيل (ومنها إنجيل يوحنا) قد كُتبت بعد حدثَي "القيامة" و"العنصرة" المجيدَين، وعلى ضوئهما. وبهدي الروح القدس، كتب الإنجيليّون عن حدث "نزول إبن البشر" وكرازته والخلاص الذي حقّقه برفعه على الخشبة وقيامته المجيدة، كما عن صعوده المجيد، أي عودته إلى المجد السماويّ، الذي لم يُبارحه أصلاً. وهذا ما نُعلنه في "قانون الإيمان النيقاويّ"، حيث نقول "نزل من السماء... وصعد إلى السماء...". وهو لم ينزل إلا لكي يعود فيصعد، ويُصعِد معه طبيعتنا البشريّة وقد تمجّدت، عربوناً لصعودنا العتيد إليه.

* "... ينبغي أن يُرفع إبن البشر... لتكون الحياة الأبديّة لكلّ من يؤمن به"

ينتقل بعدها السيّد ليُحدّد ذروة أو كمال رسالة "إبن البشر"، ألا وهي أن "يُرفع"، على مثال "الحيّة النحاسيّة" التي رفعها موسى في البريّة قديماً، والهدف هو خلاص كلّ من يؤمن به ونيله الحياة الأبديّة... قصّة "الحيّة النحاسيّة" تقول بأن الشعب العبرانيّ، الذي خرج من عبوديّة مصر على يد موسى، تاه في بريّة سيناء وطفق يتذمّر على الربّ إلهه... فبدأت الأفاعي تلدغه (عقاباً على التذمّر) وهو في طريقه إلى الأرض. فطلب الشعب إلى موسى أن يُصلّي إلى الربّ الإله ليُزيح عنه هذا "العقاب". وبعد أن صلّى موسى، أوصاه الربّ بأن يصنع "حيّة نحاسيّة" ويرفعها على راية، لكي يشفى كلّ من ينظر إليها بعد أن تكون لدغته حيّة (عدد 21: 4-9)... وإذا كان النظر إلى "الحيّة النحاسيّة" قديماً قد جلب الشفاء من لدغات الأفاعي، ومنح "الملدوغين" حياة أرضيّة جديدة (شفاء جسديّاً)، فإن رفع "إبن البشر" سوف يشفي البشر من لدغة خطاياهم (نتذكّر قصّة الحيّة وإيقاعها بآدم وحوّاء في "سفر التكوين")، ويمنح الخلاص والحياة الأبديّة لكلّ من يؤمن به... يجب أن نُدرِك أن الله شاء بحكمته التي لا تُدرَك، أن يتمّ التدبير الخلاصيّ عبر الإنسحاق الكامل، عبر بذل الذات إلى أقصى الحدود. فتجسّد الإبن وكلّ ما تبعه من كرازة، وصولاً حتى "الصعود على الصليب"، ليس إلا ذروة "النزول" والإتّضاع من قِبَل الله. وكلّ ذلك تمّ لكي "يُصعِدنا" إليه ويمنحنا الحياة الأبديّة إن آمنّا.

* "هكذا أحبّ الله العالم... لم يُرسِل إبنه ليدين العالم، بل ليُخلّص به العالم"

بهذا الكلام، يُعلن الربّ يسوع أن الله، رغم خطيئة الإنسان تجاهه، لم يسعَ إلى إدانته، بل إلى خلاصه بسبب حبّه له... إن حبّ الله أكبر من خطيئة الإنسان، وقد قال صاحب المزامير "إن كنتَ للآثام راصداً يا ربّ، يا ربّ من يثبت" (مز 129: 3-4). فالله هو الحبّ المُطلَق، وهو لن يترك من هو "على صورته ومثاله" يموت موتاً أبديّاً (بإنفصاله عن مصدر حياته). وهو قد وعده فوراً بالخلاص، وإبتدأت "التحضيرات" لذلك. وما مسيرة "العهد القديم" كلّها سوى تاريخ هذه "التحضيرات"، إلى أن تمّت الأزمنة ومعها النبوءات... فأرسل الله إبنه الوحيد لإنجاز هذا الخلاص بالجسد البشريّ تحديداً. وهو بذلك قد حمل أسقامنا، وقد كانت كلّ كرازته، بالأقوال والأعمال، مُصوّبةً نحو الهدف النهائيّ، ألا وهو خلاص العالم، وبالأخصّ خلاص كلّ من يؤمن به وبمن أرسله، لأن المسألة هي مسألة خيار حرّ.

في الفكر اللاهوتيّ للكرازة "اليوحنّويّة" (التي ينتمي إليها إنجيل هذا الأحد)، لم يعُد الصليب مُجرّد رمز للألم وللمذلّة وللموت، بل أصبح رمزاً لمجد الله وللحياة... وقد وصف السيّد "صعوده على الصليب" بأنه إرتفاع ومجد وإنتصار على الخطيئة والموت، وهو بالصليب سيرفع البشريّة إلى أبيه، كما في قوله "قد أتت الساعة ليتمجّد إبن الإنسان. الحقّ الحقّ أقول لكم، إن لم تقع حبّة الحنطة في الأرض وتمُت، فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير… وأنا إن إرتفعتُ عن الأرض أجذب إليّ الجميع. قال هذا مُشيراً إلى آية ميتة كان مُزمِعاً أن يموت" (يو 12: 24-33).

------------------------------------------------

ثالثاً – العبرة من إنجيل اليوم:

اليوم هو محطّة تأمليّة، ونحن في طريقنا إلى الإحتفال بعيد "رفع الصليب الكريم المُحيي"... وقفة تأمليّة بالحبّ العظيم الذي خصّنا به الآب السماويّ، من خلال إرساله إبنه الوحيد لأجل خلاصنا وخلاص العالم، وقد تجلّى هذا الحبّ في أبهى حلّة من خلال ما هو "جهالة" عند البشر، أعني به الصليب الذي رُفع عليه الإبن الأزليّ... ويختصر الربّ يسوع رسالته قائلاً "لقد جئتُ إلى العالم، حبّاً بالعالم وبخلاصه وليس دينونةً للعالم". من خلال يسوع، يقول الله لكلّ واحد منّا "أنا أحبّكَ، وأريدكَ أن تحيا لا أن تموت". إن ثمن الخطيئة هو موت، والله لم يخلق الإنسان لكي يموت. خلقه لكي يحيا به، هو مانح الحياة الحقّة. لكن كان لا بدّ من دفع ثمن هذه الخطيئة، فشاء الله أن يكون إبنه الوحيد كفارةً واحدةً ونهائيّةً عنّا أجمعين. "نزل من السماء" وإتّخذ جبلتنا البشريّة الضعيفة، الهالكة، ليُحقّق الخلاص من خلالها. فيكون "آدم الجديد" الذي يُحيي "آدم الأول"، بإطاعته المشيئة الإلهيّة حتى الموت، موت الصليب تحديداً.

إن الخلاص جرى عن طريق بذل الذات من قبل "إبن البشر" في سبيل "كلّ البشر". وهذا الخلاص مرّ عبر العقوبة القصوى في تلك الأيام، ألا وهي الصلب. فأرانا الله بذلك إلى أيّ مدى يُمكن أن يصل به الحبّ... لكنه أرانا أيضاً أن الصليب ليس غاية بحدّ ذاتها وأنه ليس نهاية الطريق أو نهاية كلّ شيء، وأن القيامة والحياة الأبديّة في الحضن الإلهيّ هما الغاية النهائيّة.

بقلم الاخ  توفيق ناصر (خريستوفيلوس)