أنت هنا

 

قراءة تأمليّة لإيقونة "ميلاد سيّدتنا والدة الإله مريم"

 

أولاً – مُقدّمة عامة عن الإيقونة:

على غرار الأناجيل التي تنقل إلينا البشارة بشكل "سمعيّ" إجمالاً (كما في القداس الإلهيّ) لتصل إلى أذهاننا، كذلك الإيقونة تنقل إلينا البشارة نفسها بشكل "بصريّ"، لتصل إلى أذهاننا أيضاً وتُصبح "غذاءً روحيّاً"... بناءً عليه، يُمكننا إعتبارها أداةً للكرازة، خاصةً وأنها ليست "صورة" بالمعنى المُتعارَف عليه (أي صورة "طبق الأصل"، "ميكانيكيّة"، جامدة)، بل هي نتاج تأمل عميق بسرّ التدبير الخلاصيّ، مُستندة في أساسها إلى حدث "التجسّد الإلهيّ" وكل تفرّعاته. وللتذكير، فإن حدث "التجسّد الإلهيّ" شكّل أساس الفنّ الإيقونوغرافيّ...

ومن الأحداث الأساسيّة المُرتبطة بحدث "التجسّد الإلهيّ"، والتي هي موضوع إيقونتنا أدناه، حدث ولادة من سيتحقّق بواسطتها حدث "التجسّد الإلهيّ"، أي ولادة مريم بنت يواكيم وحنة، ولادة أتت بعد عقم طويل وبعد إستجابة إلهيّة لدموع الشيخَين البارّين، ولادة أتت بالطبع في سياق التدبير الخلاصيّ الموعود منذ قديم الأيام...

فلنقرأ مُسبّحين ومُمجّدين...

------------------------------------------------

ثانياً – وصف سريع لمُحتوى الإيقونة:

تجمع إيقونتنا ثلاثة مشاهد أساسيّة في إطار واحد... فمن جهة اليمين، نرى الملاك يُبشّر يواكيم بإستجابة الله لصلواته الحارّة، ومن جهة اليسار، نرى الزوجَين في لقاء حميم سوف يُسفر عن ولادة ثمرة الحشا التي طالما تمنّياها. أما في وسط الإيقونة، فتتصدّر حنة المشهد بعد أن ولدت مريم، الظاهرة طفلة مُقمّطة في أسفل الإيقونة.

------------------------------------------------

ثالثاً – الخلفيّة الكتابيّة للإيقونة:

نذكر أن الإيقونة مبنيّة على الرواية الواردة في "إنجيل يعقوب" المنحول، وليس على أيّ مصدر كتابيّ "قانونيّ" (الأناجيل). وهذه هي حال إيقونات بعض الأحداث في حياة والدة الإله، كحبل القديسة حنة بها (9 كانون الأول) ورقادها (15 آب)... ذلك أن الإنجيليّين الأربعة لم يتطرّقوا إلى حياة مريم الخاصّة، إذ ليس هذا هدفهم، بل ذكروا عنها في كتاباتهم، ما يتعلّق مباشرةً ب"الحدث المسيحانيّ"، الذي مِحوَره شخص يسوع المسيح الإله المُتجسّد... لذلك، فإن الكنيسة تقرأ حدث ميلاد مريم على ضوء "الحدث المسيحانيّ"، وترى في ميلاد مريم من أبوَين عاقرَين، إحدى عظائم الله التي تأتي من ضمن تدبيره الخلاصيّ، والخطوة الأولى نحو إتمام هذا التدبير.

------------------------------------------------

رابعاً – القراءة الروحيّة لرموز ومعاني الإيقونة:

* إن خلفيّة المشهد في الإيقونة مُجلّل باللون الذهبيّ، الذي يرمز إلى المجد الأبديّ. ولا عجب، فحدثُ اليوم ليس بالحدث العاديّ، إنما هو نعمة إلهيّة لزوجَين عرفا "عار" العقم طوال حياتهما. إذ إن الله إستجاب دعاء عبدَيه يواكيم وحنة (الطاعنَين بالسنّ)، ورزقهما بالطفلة التي سوف تُصبح أماً لملك الدهور، "عرشاً شيروبيميّاً"، و"سماءً حيّة". فنرى في حدث اليوم الخطوة الأولى الممهِّدة لدخول من هو "الحياة" في حياة البشر. كما أنه بداية الفرح للجنس البشريّ، كما نُعبّر عن ذلك في طروباريّة العيد "ميلادكِ يا والدة الإله، بشّر بالفرح المسكونة كلّها...".

ومن ضمن خلفيّة المشهد أيضاً، يظهر بناءان، الأول يرمز إلى موضع صلاة حيث كان يواكيم يُصلّي بحرارة طالباً ثمرة الحشا، والثاني هو منزل الزوجَين بكلّ بساطة. لكن المُهمّ هو الرداء الأحمر (أو الغطاء) الذي يصل البناءَين معاً، وهو يرمز إلى الحضور الإلهيّ الذي يُظلّل شعبه، وإلى عهد الله لشعبه، الذي إمتدّ ليَصِل إلى بيت الزوجَين ويشمله برحمته.

* يُمكن القول بأن الإيقونة تجمع عدّة مشاهد في آن (كما العديد من الإيقونات)، وكأنّها تختصر حياة الزوجَين البارّين في لحظة واحدة متعدّدة المراحل (تسعة أشهر في مشهد واحد). فمن جهة اليمين، نرى بداية القصة، وها إن الملاك يظهر ليواكيم، مُبشّراً إيّاه وحنة، بأن الله إستجاب لصلواتهما الحارّة، وبأنه سيُزيل عنهما عار العقم لينعما بثمرة الحشا. ويبدو يواكيم فعلاً في حالة صلاة وإبتهال، وفي نفس الوقت في حالة شكر بعد بُشرى الملاك. وفي الجهة المقابلة (أي يسار الإيقونة)، نرى الزوجَين فرحَين متعانقَين في منزلهما (منتصف القصّة أي مرحلة الحبل)، في إشارة إلى اللقاء الحميم الذي ستكون مريم ثمرته. فمريم وُلدت ضمن السياق الطبيعيّ للأمور، أي من علاقة عاديّة بين زوجَين، مثل سائر البشر.

وصولاً إلى خاتمة القصّة، أي حدث ميلاد مريم... وفي هذا الإطار، نرى حنة تتصدّر المركز الوسطيّ للإيقونة، فنراها نصف مُستلقية على سرير فاخر (كون الزوجَين كانا ميسورَي الحال)، تلبس رداء أخضر اللون، دلالة على الحياة المتجدّدة. فقد منحها الله "حياة" جديدة حين أزال عنها "وصمة العار" بسبب العقم. والملفِت جداً هو وضعيّة التأمل التي إتّخذتها، تأمل بحنان الله ورحمته للزوجَين، وكأنها تقول في نفسها "فعلاً، لا شيء مُستحيل عند الله". ووضعيّة حنة التأمليّة سوف تتّخذها مريم نفسها بعد ولادتها الربّ يسوع، حيث نراها في إيقونة الميلاد مُستلقية بعد الولادة تتأمل في عظائم الله وفي سرّ الحبل والولادة البتوليّين (أيضاً "لا شيء مُستحيل عند الله"). وإلى جانب حنة، نرى جمهرةً من الفتيات يخدمنَ الأم "العاقر سابقاً" ويقدّمنَ لها ما تحتاجه من خدمات بعد الولادة.

* في القسم السفليّ من الإيقونة، نرى الطفلة مريم في السرير، وهي مُقمّطة كسائر الأطفال. وهي بدورها سوف تقمّط إبنها بعد ولادته. هي وُلدت في بيت ميسور، لكن إبنها (الإله المتجسّد) سيولد يوماً ويُضجع في مذود. "الإله الذي قبل الدهور" المُزيل العقم عن حنة سوف يرتضي بالإتضاع الكامل... أمام مريم، نرى صبيّة يافعة تعمل بالمغزل، وعيناها ساهرتان على الطفلة. أما غداً عند "البشارة"، فسوف نرى مريم وفي يدَيها مغزل، رمزاً إلى نسجها جسد "الكلمة الأزليّ" من جسدها ودمها... وفي بعض الإيقونات الأخرى، تظهر مريم بين يدَي نسوة، يقمنَ بغسلها بعد الولادة. تجدر الإشارة إلى أن كاتب الإيقونة لا يضع النجمات الثلاث على جبين وكتفَي مريم (كما العادة في إيقوناتها الأخرى)، بل يكتفي في ما خصّها بعبارة "ماتير ثيو" (والدة الإله) في هذه الإيقونة... بينما في البعض النادر من الإيقونات، لا يُعرّف الكاتب عنها بأيّ تعبير، فهي ما زالت مولودة للتوّ، في بداية المشوار الطويل المؤدّي في نهايته إلى خلاص الجنس البشريّ.

------------------------------------------------

خامساً – كلمة ختاميّة:

في الختام، نرفع التسابيح لله على عظائمه التي صنعها ويصنعها على مرّ الأجيال... فقد رفع عار العقم قديماً عن سارة إمرأة إبراهيم، وعن رفقة إمرأة إسحق، وعن راحيل إمرأة يعقوب، وعن حنّة التي أصبحت أماً لصموئيل النبيّ... اليوم يُزيله عن يواكيم وحنة، وغداً سيرفعه عن زكريّا وإليصابات... عظيم الله في عجائبه، فاليوم العاقر تُصبح أماً وتلد "فتاة الله"، وغداً البتول تُصبح أماً وتلد "إبن الله".

وخير ما نختم به قراءتنا التأمليّة لإيقونة "ميلاد السيّدة"، ما عبّر عنه القديس يوحنا الدمشقيّ حين هتف:

* مُسبّحاً الثالوث القدّوس في معرض كلامه لمريم:

"قدّوس الله الآب الذي إرتضى أن يُكمِل منكِ وبكِ السرّ الذي سبق فحدّده قبل الدهور... قدّوس القويّ إبن الله والإله الواحد الذي جعلكِ تولدين بكراً من أمّ عاقر، حتى أنه وهب نفسه، وهو إبن الآب الوحيد، ليولد منكِ إبناً وحيداً لأمّ بتول، بكراً لإخوة كثيرين، شبيهاً بنا وشريكاً في لحمنا ودمنا بواسطتكِ... قدّوس الذي لا يموت الروح الكلّيّ قدسه الذي حفظكِ بندى ألوهيّته سليمة من النار الإلهيّة، إذ ههنا من كانت تعني سالفاً علّيقة موسى"...

* ومُهنئاً يواكيم وحنة قائلاً:

"طوبى لكما ، أيها الزوجان! فإن الخليقة كلّها لَمدينةٌ لكما. لأنها إستطاعت بكما أن تُقدّم للخالق الهديّة التي لا تعلوها هديّة، الأمّ البتول، التي هي وحدها جديرة بالخالق. فإفرح يا يواكيم، لأن الإبن أُعطِي لنا مولوداً من إبنتكَ".

 

بقلم الاخ  توفيق ناصر (خريستوفيلوس)