أنت هنا

 

الأحد 9 آب 2020

الأحد العاشر بعد "العنصرة" – أحد "إبراء الغلام الممسوس"

 

نقرأ فيه الإنجيل بحسب متى (متى 17: 14-23)، وفيه يُبرىء يسوع غلاماً مُعترى (به "شيطان")، بعد فشل تلاميذه في القيام بذلك، ما كلّفهم درساً في الإيمان من قبل "المُعلّم".

مُلخّص عبرة إنجيل اليوم:

* "طرد الشياطين" هو علامة من علامات ظهور الملكوت، وزوال سلطانها على البشر.
* آيات يسوع (ومنها آية اليوم) تُظهِر لنا سلطانه المُطلَق على كل العناصر الكونيّة.
* بالإيمان، نحيا في الله ومعه، وبذلك نستطيع التخلّص من "شياطيننا".
* سرّ الإيمان القويّ يكمن في "الصِلة الدائمة مع الله" (الصلاة) وفي التجرّد من "الأرضيّات والجسديّات" (الصوم).

**************************************************

أولاً – مُقدّمة لإنجيل هذا الأحد:

في السياق الكتابيّ (وربّما الزمنيّ أيضاً) لإنجيل متى، تأتي الرواية الإنجيليّة لهذا الأحد بعد حدث "التجلّي" مباشرةً، حيث أظهر الربّ مجده الأزليّ في خطوة قام بها لتشديد إيمان تلاميذه به، قبل "الكأس التي سيشربها" عمّا قريب، و"الصبغة التي سيصطبغ بها" (متى 20: 22) و(مر 10: 38)، أي محنة الصليب، التي ستؤدّي إلى "عودته" إلى هذا المجد الأزليّ. فهو كان قد بدأ يُنبىء تلاميذه عن آلامه وموته العتيدَين، وكذلك عن قيامته. واليوم، وبعد المجد المُتجلّي على الجبل، يعود الربّ يسوع والتلاميذ الثلاثة إلى واقع العالم، وينضمون مُجدّداً إلى باقي التلاميذ. فما زال العمل الكثير ينتظر يسوع في إطار كرازته بملكوت الله، حيث يُهيّىء تلاميذه لحمل لواء الكرازة يوماً، كما أنه يُخاطب الجموع بالكلمة ويُجري فيهم كل أنواع الآيات، التي نُذكِّر بأنها علامات ظهور هذا الملكوت بين البشر. ونحن اليوم على موعد مع آية جديدة يُجريها السيّد، يُظهِر من خلالها سلطانه المُطلَق على "الشياطين"، شياطين النفس والجسد، كما يصف لنا "العلاج الشافي".

------------------------------------------------

ثانياً – القراءة التأمليّة لإنجيل هذا الأحد:

إذاً، بعد صعود الجبل، حيث "حضور الله" بحسب تقليد "العهد القديم"، وتجلّي "مجد الله" في شخص الإبن المتجسّد، حان وقت النزول مُجدّداً إلى العالم، عالم البشر المُظلِم بالخطيئة وبالأمراض وبالبُعد عن الله، حيث يتجلّى "حضور الله ومجده" وسط شعبه في شخص الإبن الوحيد، وعبر كرازته الشفهيّة وآياته العمليّة. فقد أعلن هو عن نفسه "ما دُمتُ في العالم، فأنا نور العالم" (يو 9: 5). واليوم نواصل التجوال مع يسوع وتلاميذه من خلال الإنجيل بحسب متى البشير، حيث نشهد على أهميّة الإيمان في علاقتنا بالله، ثم على أهميّة الصلاة والصوم في "إخراج شياطيننا" المُختلِفة.

عند إنضمام يسوع و"الثلاثيّ" مُجدّداً إلى باقي التلاميذ، يأتي إليه رجل يسترحمه من أجل إبنه، ويشكو إليه بأن تلاميذه لم يستطيعوا إبراءه. يتبين لنا مِن وصف الأب لمرض إبنه، بأن "به شيطان" في لغة تلك الأيام، ومُصاب بمرض "الصرع" بلغة أيامنا... تجدر الإشارة إلى أنه كانت تُنسَب إلى "الشياطين" أمراض كثيرة في تلك الأيام، حيث يفقد الإنسان السيطرة على تصرّفاته، على مثال مرض الصرع، فكانوا يَعزون ذلك إلى إستحواذ "الشيطان" على ذلك الإنسان. في رواية اليوم، قد أتى هذا الرجل مؤمناً بأن يسوع قادر على إبراء إبنه، لكن يسوع كان غائباً، فظنّ الرجل أن تلاميذه قد يكونون على صورة مُعلّمهم، أي على نفس المُستوى من المقدرة والمهارة، فخاب ظنّه لأن التلاميذ لم يقدروا على إبراء الغلام... حين يكون يسوع غائباً عن حياتنا، تسرح وتمرح "الشياطين" على هواها، وليس من أحد يردعها، إن لم يكن على صورة يسوع نفسه.

جاءت ردّة فعل يسوع "عنيفة" تجاه التلاميذ إن صحّ التعبير، إذ إنهم قد عايشوه طيلة فترة كرازته (وقد شارفت على نهايتها)، ورأوا منه الآيات العظيمة، ولم يأخذوا أية عبرة من ذلك كلّه. حتى أنه كان قد أرسلهم سابقاً كل إثنين معاً، ليكرزوا بإسمه ويشفوا المرضى ويطردوا الشياطين... والفصل العاشر من إنجيل متى مُخصّص بالكامل لرواية هذا "الإرسال". أما اليوم، فنستطيع القول إن التلاميذ "فشلوا بالإمتحان"، ولم يكونوا على المُستوى المطلوب منهم. فبعد أن رأينا خيبة أمل الأب من تلاميذ "المُعلّم"، نرى الآن خيبة أمل يسوع من تلاميذه. وهذا يُذَكّرنا بنزول موسى عن الجبل، وخيبته وردّة فعله بعد رؤيته الشعب فاقداً لإيمانه. إن يسوع، بعد نزوله من الجبل، لم يجد الإيمان اللازم في تلاميذه. كان ينتظر منهم أن يُثمروا ثماراً كثيرةً، فلم يُثمروا إلا القليل... وهنا تظهر عدم قدرة التلاميذ على فهم سرّ يسوع، الذي سيفهمونه فيما بعد (بعد قيامته وخصوصاً بعد العنصرة). إذ إنهم سوف يقومون بأعمال يسوع بعد أن يكونوا قد تشدّدوا بإيمانهم بالقائم من بين الأموات. اليوم، هم إتّكلوا على قدراتهم الشخصيّة، ولم يصلوا إلى النتيجة المرجوّة. وكم نكون نحن أيضاً على صورة التلاميذ، فلا نقدر على طرد "شياطيننا" الشخصيّة قبل طرد "شياطين" الآخرين...

غير أن يسوع، على الرغم من خيبته الظاهرة، إلا أنه عالم تمام العلم بأمر تلاميذه، ويتخطّى عقبة "فشلهم في المهمّة". يأخذ أمر الغلام على عاتقه، ويأمر الروح النجس ليخرج منه، فيخرج... نحن اليوم أمام آية طرد شياطين (بحسب المفاهيم السائدة)، ولسنا أمام عملية شفاء (بالمعنى الذي نفهمه اليوم). يظهر في آية اليوم سلطان يسوع المُطلَق على الشياطين والأرواح النجسة، وهذا أيضاً من علامات حلول "ملكوت السماوات"، إزالة سطوة الشيطان على بني البشر.

يتحيّر التلاميذ عن سبب فشلهم، فيسألون "المُعلّم" الذي يُجيبهم بكلّ صراحة "لعدم إيمانكم". لم يقل مثلاً "لقلّة إيمانكم"، بل إستعمل كلمة "عدم إيمانكم". إن يسوع رأى في فشلهم بإخراج الشيطان من الغلام دليلاً على عدم إيمانهم بالرغم من مرافقتهم "الطويلة" له ورؤيتهم لآياته. ويُردِف جملته الشهيرة عن "حبّة الخردل"، التي سوف نردّدها دائماً بشأن كلّ ما يتعلّق بالمسائل الإيمانيّة. نرى من خلال كلمة يسوع هذه أن الإيمان هو الركيزة الأساسيّة في ملكوت الله، إذ إن كل الآيات التي سبقت (والتي سوف تلحق) مبنيّة على إيمان الإنسان بيسوع "هل تؤمن بإبن الإنسان..."، "أتؤمنين بهذا..."... فالإيمان إذاً هو مُحرّك الحياة الملكوتيّة. والمقارنة بين صغر حبّة الخردل وكبر الجبال له مدلولاته، خاصّةً وأنها أصغر الحبوب جميعاً، فإن نمت وكبرت تحوّلت إلى شجرة كبيرة... هكذا الإيمان يُزرع فينا ويبدأ صغيراً، هو عطيّة من الله وعلى الإنسان أن يفتح باب قلبه، فينمو هذا الإيمان بقدر ما يسمح له الإنسان بذلك. أما في ما خصّ نقل الجبال، فأهمّ عمليّة "نقل" هي إنتقال الإنسان من حالة الخطيئة إلى حالة النعمة والحياة بالمسيح يسوع، عبر توبته عن خطاياه التي هي أثقل من الجبال، وهنا تكمن المُعجزة الحقيقيّة.

إذاً، بالإيمان نستطيع طرد "الشياطين"، وما أكثرها في حياتنا اليوميّة... غير أن هذا الإيمان له متطلّباته، فنرى يسوع يقدّم ما يُمكن أن نُسمّيه ب"سرّ نجاح" هذا الإيمان، ألا وهو "الصلاة والصوم". في موضوع الصلاة، لا يحيا إيمان بدونها، فالصلاة هي العلاقة القلبيّة بالله، الذي يُنمّي فينا "الزرع الإيمانيّ"، وهي "الوقود" الضروريّ لإستمرار نُموّه. ولنا في يسوع خير مثال نقتدي به، فقد كانت الصلاة تسبق مباشرةً (أو تلي مباشرةً) الآيات الكبيرة التي كان يصنعها، وهو كان يُعطي الصلاة حيّزاً لا بأس به من وقته، متّحداً بأبيه السماويّ على الدوام. والصلاة هي على صعيدَين، الجماعيّ الذي لا بدّ منه لأن الكنيسة بالأساس هي جماعة مُصلّية (البُعد الأفقيّ)، والشخصيّ الذي لا غنى عنه أساساً لأن الصلاة هي "زفرات من القلب إلى الله" (البُعد العاموديّ). أما في موضوع الصوم، فهو أبعد بكثير من كونه حِميةً غذائيّةً، لا معنى لها إن لم تقترن بالجوهر، إذ لا بدّ من التجرّد من أمور كثيرة قد تُعيق طريق الإيمان أمامنا. فكلّما تجرّدنا من الأرضيّات الزائلة على كافة الأصعدة، كلّما إقتربنا أكثر من السماويّات الأبديّة. هناك تخلٍّ لا بدّ منه من أجل "النصيب الأفضل الذي لن يُنزَع منّا"، إن أدركنا قيمته فعليّاً. وإن رغبنا بأعمال الله ونِعَمِه، فحَرِيٌ بنا أن نتفرّغ لله بكليّتنا.

يختم متى روايته عن إبراء الغلام المُعترى كما بدأها (بعد التجلّي)، أي بإشارة يسوع إلى حتميّة آلامه وموته وقيامته، فتبدو آية الإبراء كمحطة قوّة (سلطانه على الشياطين) بين إعلانين عن موقف ضعف (سلطان البشر عليه). والجدير ذكره أن التلاميذ كانوا يسمعون يسوع يُعلن من وقت إلى آخر عن آلامه القادمة، غير أنهم لم يكونوا يفهمون الأبعاد الحقيقيّة لهذا الكلام. وذلك لإختلاف مفهوم الطرفَين عن "المسيح"، ولن نستفيض في شرح ذلك هنا. نكتفي بالقول إن كل تدبير يسوع، بما فيه الكرازة الشفهيّة والآيات، مُصوّب منذ البدء نحو هدف "الآلام والموت والقيامة"، وهو في كل ما تكلّم وعلّم وصنع، بيّن لتلاميذه أولاً ولنا من بعدهم، أن المجد الحقيقيّ لا يأتي عن طريق الآيات الباهرة والأعمال الخارقة، بل عن طريق العمل بمشيئة الله أولاً وأخيراً، وهذا جوهر رسالة الإبن الخلاصيّة التي مرّت عبر الصليب.

------------------------------------------------
ثالثاً – العبرة من إنجيل اليوم:

كما في الآحاد السابقة، حيث شهدنا آيات مُختلِفة للربّ يسوع، كذلك اليوم أيضاً. نرى أن الإيمان هو الركيزة الأساسيّة للعلاقة مع الله وبالتالي لحياتنا في المسيح يسوع. فصل اليوم كان "درساً قاسياً" في الإيمان، لكنه يُظهِر مدى أهميّته الحيويّة في هذه العلاقة. إذ إنها لا تكون متينة إن لم تكن مبنيّة على أساس صلب، وهذا الأساس ليس إلا الإيمان... إن الربّ يسوع لا يطلب منّا سوى الإيمان، ونرى هذا الأمر على مدى كرازته كلّها، وكم كان يتعجّب من قلّة إيمان الكثيرين، بدءاً من أهالي مدينته "الناصرة"، حيث أقاربه أنفسهم لم يكونوا يؤمنون به (متى 13: 58)، إلى كفرناحوم (مدينته البديلة) حيث أجرى آيات كثيرة ومع ذلك لم تؤمن، وصولاً إلى الكتبة والفرّيسيّين الذين يعرفون الكتب، ومع ذلك لم يعرفوا أن يقرأوا جيّداً "الحدث المسيحانيّ" (الذي إنتظروه طويلاً)... اليوم، نتعلّم من الربّ يسوع أن لا مجال للإنتصار على "شياطيننا" بمجهودنا الشخصيّ، وإنما من خلال علاقتنا الإيمانيّة بالله، التي عمادها "الصلاة والصوم". فيُدرِك كلّ منّا صرعه أو أمراضه أياً كانت، ويعلم تمام العلم أن الإيمان هو خشبة الخلاص.

ونختم بقول للربّ يسوع عن أهميّة الإيمان، بحيث أنه "متى جاء إبن البشر (في مجيئه الثاني)، ألعلّه يجد الإيمان على الأرض؟" (لو 18: 8).

 

بقلم الاخ  توفيق ناصر (خريستوفيلوس)