أنت هنا

معمودية يسوع

وقائع النص الانجيلي (متى 3: 13-17)

13 في ذلِكَ الوَقْت ظَهَرَ يسوع وقَد أَتى مِنَ الجَليلِ إِلى الأُردُنّ، قاصِداً يُوحنَّا لِيَعتَمِدَ عن يَدِه"

تشير عبارة "في ذلِكَ الوَقْت" في الأصل اليوناني Τότε (معناها حينئذ) الى الوقت الذي فيه كان يوحنا يكرز ويعمِّد، وهو الأرجح الى المدة التي مرَّت بين ظهور يوحنا وموته وهي ثلاث سنوات حيث بدأ رسالة يسوع العلنيَّة حوالي سنة 27، وكـــان عمره تقــــريبا 30 سنة (لوقا 3: 23)، وكان قد قضى حياته السابقة في الناصرة (متى 2: 23)؛ أمَّا عبارة " ظَهَرَ" في الأصل اليوناني παραγίνεται (معناها جاء) فتشير إلى ظهور يسوع في الساحة العلنية كما بشّر به يوحنا المعمدان. يُرجح ان المسيح كان حينئذ بلغ الثلاثين من عمره، وهو العمر الشرعي لممارسة الكاهن وظيفته " مِنِ ابنِ ثلاثينَ سَنةً فصاعِدًا إِلى ابنِ خَمْسينَ سَنة، كُلُّ الدَّاخِلينَ لِيَقوموا بالخِدمةِ أَوِ الحَمْلِ في خَيمَةِ المَوعِد " (عدد 4: 47). لا يركز إنجيل متـــى على الاهتمام بمعموديـــــة يسوع بقدر ما يركّز على الوحي السماوي الذي تبعها (متى 3: 16-17)؛ اما عبارة " الجَليلِ " فتشير الى ناصرة الجليل كما ورد في انجيل مرقس " وفي تلِكَ الأيَّام جاءَ يسوعُ مِنَ ناصِرَةِ الجَليل، وآعتَمَدَ عن يَدِ يوحَنَّا في الأُردُنّ. " (مرقس 1: 9). وقد اقام يسوع منذ طفولته في الناصرة (مرقس 1: 9)؛ أمَّا عبارة "الأُردُنّ" فهو اسم عبري הַיַּרְדֵּן ومعناه "المنحدر" لان مجرى المياه يجري في انخفاض ويصب في البحر الميت الذي يُعرف أنه أخفض نقطة على سطح الكرة الأرضية، حيث يبلغ عمقه حوالي 400 متر تحت مستوى سطح البحر. ويبلغ طول نهر الأردن نحو 251 كم، وطول سهله نحو 360كم. ويصب فيه ثلاثة روافد من الشمال، وهي بانياس من سوريا ودان وحاصباني من لبنان وبحيرة طبرية، ومن الشرق نهر اليرموك ونهر الزرقاء ووادي كفرنجة وعين جالوت، ويفصل نهر الاردن بين فلسطين التاريخية والأردن؛ وكان مكان التعميد في وادي خرار في عبر الاردن حيث تتوفر مياه غزيرة في تلك الناحية لتكفي الناس ومواشيهم كما يروي الانجيل. "جَرى ذلك في بَيتَ عَنْيا عِبْرَ الأُردُنّ، حَيثُ كانَ يوحَنَّا يُعَمِّد"(يوحنا 1: 28). أما " يُوحنَّا " في الأصل اليوناني Ἰωάννης مشتقة من العبرية יוֹחָנָן (معناها عطية الله) إلى يوحنا ابن زكريا واليصابات الذي هو أكبر من المسيح بستة أشهر. قضى حداثة في البرية كما ورد في انجيل لوقا " كانَ الطِّفْلُ يَترَعَرعُ وتَشتَدُّ رُوحُه. وأَقامَ في البَراري إِلى يَومِ ظُهورِ أَمرِه لإِسرائيل " (لوقا 1: 80)، وكان من أنسباء مريم، أُم يسوع. وشهد ليسوع "أَنا أُعَمِّدُ في الماء، وبَينَكم مَن لا تَعرِفونَه، ذاكَ الآتي بَعدِي، مَن لَستُ أَهلاً لأَن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه .. هُوَذا حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم. هذا الَّذي قُلتُ فيه: يأتي بَعْدي رَجُلٌ قد تَقَدَّمَني لأَنَّه كانَ مِن قَبْلي. وأَنا لم أَكُنْ أَعرِفُه، ولكِنِّي ما جِئْتُ أُعَمِّدُ في الماء إِلاَّ لِكَي يَظهَرَ أَمْرُه لإِسْرائيل" (يوحنا 1: 26-34)؛ أمَّا عبارة "لِيَعتَمِدَ" في الأصل اليوناني βαπτίζω (معناه غطَّس وغسل) فتشير الى غرض من مجيء يسوع الى يوحنا المعمدان وهو العماد، والعماد كان بالتغطيس، ويُمثل التغطيس موت المسيح ودفنه، والخروج من الماء يرمز الى الخروج من القبر وبالتالي الى القيامة، وامَّا رمزية الماء فهو علامة تطهير او حياة. فمعمودية يوحنا المعمدان تختلف عن الحمام الطقسي اليهودي اليومي ً حيث يُغطس الشخص نفسه في الماء للتعبير عن الجهد في سبيل حياة طاهرة كما كانت تفعل جماعة الاسّينيين في قمران، أمَّا معمودية يوحنا فهي معروضة على الشعب اليهودي بأسره، لا على الخطأة والمهتدين وحدهم، أنه عماد من أجل التوبة وغفران الخطايا (مرقس 1: 4)؛ وهو عماد ماء ويُعدُّ للعماد الموعود بالمسيح في الروح والنار كما اعلن يوحنا المعمدان "أَنا أُعمِّدُكم في الماءِ مِن أَجْلِ التَّوبة، وأَمَّا الآتي بَعدِي فهو أَقْوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهْلاً لأَن أَخلَعَ نَعْلَيْه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار"(متى 3: 11). وتعمّد يسوع أذ وقف على شاطئ نهر الأردن مع الخطأة تضامنا معهم وصار خطيئة أي ذبيحة عن الخطيئة كما جاء في تعليم بولس الرسول "ذاكَ الَّذي لم يَعرِفِ الخَطيئَة جَعَله اللهُ خَطيئَةً مِن أَجْلِنا كَيما نَصيرَ فيه بِرَّ الله" (2 قورنتس 5: 21)، وصار لعنة لأجلنا كما ورد في الكتاب المقدس " إِنَّ المسيحَ افتَدانا مِن لَعنَةِ الشَّريعة إِذ صارَ لَعنَةً لأَجْلِنا،"(غلاطية 3: 13). دخل يسوع في مسيرة التوبة التي سار فيها شعبه. ولكن يبقى السؤال مطروحا: أترى يسوع خاطئاً؟ (يوحنا 8: 46) لهذا جاءت الكلمة النبوية: هذا الآتي ليعتمد هو ابن الله الذي نال رضى الآب (متى 3: 17). وتعتبر معمودية يسوع أهم الحوادث التي جرت في غضون خدمة يوحنا المعمدان اعدادا لخدمة المسيح. ويُعلق القديس ايرونيموس " تلقّى يسوع المخلِّص معموديّة يوحنّا لثلاثة أسباب. الأوّل، وبما أنّه وُلِد إنسانًا، أراد تحقيق جميع الفرائض الوضيعة للشريعة؛ والثاني لتشريع معموديّة يوحنّا من خلال معموديّته؛ والثالث ليُظهِر، عندما قدّس ماء الأردن، حلول الرُّوح القدس في معموديّة المؤمنين من خلال هبوطه في شكل حمامة" (شرح لإنجيل القدّيس متّى، 3).

 

14 فجَعلَ يُوحنَّا يُمانِعُه فيَقول: أَنا أَحتاجُ إِلى الاِعتِمَادِ عن يَدِكَ، أَوَ أَنتَ تَأتي إِليَّ؟"

 

تشير عبارة " يُمانِعُه " الى رفض يوحنا المعمدان ودهشته وتردُّده بل تفاجئه بيسوع الذي يقف امامه ليعتمد على يده، خاصة ان يوحنا المعمدان كان قد أعلن انَّ معمــودية الــرب يسوع ستكون أعظم مـــن معموديته "أَنا أُعمِّدُكم في الماءِ مِن أَجْلِ التَّوبة، وأَمَّا الآتي بَعدِي فهو أَقْوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهْلاً لأَن أَخلَعَ نَعْلَيْه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار"(متى 3: 11). كل ذلك يدلُ على سمو معمودية يسوع وتفوقها؛ ولم يَردْ ذكر الممانعة الاَّ إنجيل متى. وهذا دليل على ان هذه الممانعة لم يكن ذلك الموقف رفضا من يوحنا أن يؤدي رسالته في عماد السيد المسيح، وإنما شهادة من يوحنا أن الرب يسوع (الابن الكلمة المتجسد) بلا خطيئة، وأنه لم يعتمد لأجل نفسه بل لأجل البشرية، وهذا ما أوضحه بقوله: "هُوَذا حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم"(يوحنا 1: 29). وتذكرنا هذه الممانعة مع رفض بطرس ليسوع في علية صهيون " فجاءَ إِلى سِمعانَ بُطرُس فقالَ له: (( أَأَنتَ، ياربُّ، تَغسِلُ قَدَمَيَّ؟" لن تَغسِلَ قَدَمَيَّ أَبَداً" (يوحنا 13: 6، 8) . أمَّا عبارة " أَنا أَحتاجُ إِلى الاِعتِمَادِ عن يَدِكَ، أَوَ أَنتَ تَأتي إِليَّ؟" فتشير إلى تفوق يسوع وتواضع يوحنا المعمدان كما في كرازة يوحنا "إِنِّي لَستُ المَسيح، بل مُرسَلٌ قُدَّامَه" (يوحنا 3: 28). لقد بحت كل من يوحنّا ويسوع عن إرادة الله، وكانا طيّعين حتى في الظروف التي بدت فيها غريبة وغير مُقنعة، منقلبة رأساً على عقب: " أَنا أَحتاجُ إِلى الاِعتِمَادِ عن يَدِكَ، أَوَ أَنتَ تَأتي إِليَّ؟" أمَّا عبارة " أَنا أَحتاجُ" تشير الى معرفة يوحنا نفسه انه دون المسيح مقاماً فرأى احتياجه الى ان يعتمد منه، وذلك لان المسيح أفضل منه (يوحنا 3: 11)، ولأنَّ يوحنا نفسه رأى أنه خاطئ يحتاج الى غفران من حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم (يوحنا 1: 39) الذي يُعمِّد بالروح القدس والنار (يوحنا 1: 11)؛ أما عبارة "أَنتَ تَأتي إِليَّ؟" فتشير الى تساؤل فيه التعجب من مجيء يسوع الى يوحنا يعتمد عل يده.

15 فأَجابَه يسوع: دَعْني الآنَ وما أُريد، فهكذا يَحسُنُ بِنا أَن نُتِمَّ كُلَّ بِرّ. فَتَركَه وما أَراد

تشير عبارة "دَعْني الآنَ وما أُريد" الى طلب يسوع ليوحنا ان يقبل طلبه ولو كان ذلك غريبا وفوق إدراكه، وذلك لبداية خدمته العلنية كالمسيح الآتي؛ اما عبارة " الآنَ " فتشير الى السبب الوقتي وذلك بالنظر الى مقتضى الحال وهو اتضاع المسيح بدلا من البشر باعتباره انه فادي، والذي كان في "هَيئَةِ إِنْسان" (فيلبي 5: 2) وأُحصِيَ مع العُصاة وهو حَمَلَ خَطايا الكَثيرين وشَفَعَ في مَعاصيهم" (أشعيا 53: 12). أمَّا عبارة "بِرّ" فتشير في انجيل متى الى الأمانة الجديدة والجذرية في السلوك والعمل بمشيئة الله وشريعته ممَّا يتوافق مع إرادة الله كما جاء في تعليم السيد المسيح "كونوا أَنتُم كامِلين، كما أَنَّ أَباكُمُ السَّماويَّ كامِل" (متى 5: 48)؛ ولا يصل الانسان الى الكمال الاّ بالمسيح كما صرَّح بولس الرسول " بِه نُبَشِّرُ فنَعِظُ كُلَّ إِنسان ونُعلِّمُ كُلَّ إِنسانٍ بكُلِّ حِكمَة لِنَجعَلَ كُلَّ إِنسانٍ كامِلاً في المسيح" (قولسي 1: 28)؛ ولذلك ، فان يسوع تعمَّد ليتمّ كلَّ برٍ أي ليتمِّم مشيئة الله، "طوبى لِلْجياعِ والعِطاشِ إِلى البِرّ فإِنَّهم يُشبَعون"(متى 5: 6). وبناء على ذلك، خضع كل من يوحنا المعمدان ويسوع معاّ لمخطط الله. تضامن يسوع مع الخاطئين ليخلّصهم، وفي رفضه العلني للحلـــــم اليهودي بمسيح ظـــــافرٍ سياسي كما تبيّن من تجاربه مع الشيطان وقهــــره لــــه (متى 4: 1-11)، واعماله التي حققت نبوءات أشعيا "ِذهبوا، العُميانُ يُبصِرون والعُرْجُ يَمشونَ مَشْياً سَوِيّاً، البُرصُ يَبرَأُون والصُّمُّ يَسمَعون، المَوتى يَقومون والفُقراءُ يُبَشَّرون"(متى11: 5)؛ فالمعمودية أكَّد ت بشكل علني مجيء يسوع وبداية رسالته لخلاص البشر كما جاء في تصريح يوحنا المعمدان "وأَنا لم أَكُنْ أَعرِفُه، ولكِنِّي ما جِئْتُ أُعَمِّدُ في الماء إِلاَّ لِكَي يَظهَرَ أَمْرُه لإِسْرائيل" (يوحنا 1: 31). امَّا عبارة " فهكذا يَحسُنُ بِنا " فتشير الى يسوع ويوحنا وذلك يحسن ليسوع ان يكون نائبا عن الخطأة، ويحسن ليوحنا ان يكون سابقا للمسيح لكي يتمما ما يطلبه الله.

16 واعتَمَدَ يسوع وخَرجَ لِوَقتِه مِنَ الماء، فإِذا السَّمَواتُ قدِ انفتَحَت فرأَى رُوحَ اللهِ يَهبِطُ كأَنَّه حَمامةٌ ويَنزِلُ علَيه".

تشير عبارة "اعتَمَدَ يسوع" الى يسوع الذي تمَّت معموديته بالتغطيس في الماء. وهذا التغطيس يدل على موته وعلى تقدمة ذاته، حيث قام يوحنا بعماده. واستحقَّ يوحنا أن يـــــــرى الروح القدس بهيئة حمامـــة، وأن يسمع صوت الآب قائلاً: "هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِيت " (متى 3: 17). وهكذا تمتَّع يوحنا بالثالوث القدّوس روحاً وحسَّاً، بل إنَّ الله أرشده إلى السيد المسيح قبل العماد، وفي هذا يقول القديس يوحنا المعمدان: «رأيتُ الروح ينزل من السماء كأنَّه حمامة فيستقرُّ عليه، وأنا لم أكن أعرفه، ولكن الّذي أرسلني أعمِّد في الماء هو قال لي: إنَّ الّذي ترى الروح ينزل فيستقرُّ عليه هو ذاك الّذي يعمِّد في الروح القدس. وأنا رأيتُ وشهدتُ أنّه هو ابن الله» (يوحنا 1: 32-34)؛ أمَّا عبارة " خَرجَ لِوَقتِه مِنَ الماء" فتشير الى فعل يوناني ἀναβαίνω أي صعد، إذاً هو كان نازلاً في الماء، صعدَ الرّب يسوع من المياه، ويُعلق القدّيس غريغوريوس النزيانزيّ “صعدَ الرّب يسوع من المياه، جاذِبًا معه العالم كلّه"؛ وطقس الخروج من الماء يرسلنا إلى لحظات جوهرية من العهد مع الله: رواية نوح والطوفان، الخروج من مصر وعبور البحر الحمر، وأخيراً الدخول في أرض الميعاد من خلال الأردن. ومن هذا المنطلق نستنتج ان معمودية يسوع كانت بالتغطيس؛ فالماء الذي يرمز الى الموت، صار بقوة الروح يرمز الى الحياة (تكوين 1: 3)، والى الخليقة الجديدة. أمَّا عبارة "انفتَحَت" فتشير الى السماوات التي كانت مُغلقة، فانفتحت وانشقت كقطعة قماش كما جاء في نبوءة أشعيا "لَيتَكَ تَشُقَّ السَّمواتِ وتَنزِل" (أشعيا 63: 19)، ويُعلق القديس ايرونيموس "إنّ السماوات قد انفتحت، ليس لأنّ العناصر منفصلة عن بعضها، ولكنها انفتحت أمام أعيننا الرّوحيّة، تلك الأعين التي رأى حزقيال من خلالها السماوات مفتوحة أيضًا، كما يُروي في بداية سفره (حزقيال 1: 1). أمَّا عبارة "رأَى" فتشير الى رؤية نزول الروح القدس على يسوع مما يدلُّ على انه المُرسل المُخلص الموعود كما ننبأ أشعيا "يَحِلُّ علَيه روحُ الرَّبّ "(أشعيا 11: 2)، وقد حلّ الروح القدس على يسوع، لا لينقّيه من الخطيئة فهو بلا خطيئة، بل ليقوّيه في عمله (قضاة 3: 10)؛ امَّا عبارة "رُوحَ اللهِ يَهبِطُ" فتشير الى الروح القدس الذي ظهر بهيئة جسدية (لوقا 3: 22) وانه نزل من السماء واستقرَّ على يسوع دالا على انه هو المسيح هو الممسوح من الروح القدس. ويُعلق القديس ايرونيموس "إنّه سرّ الثالوث الذي ظهر في هذه المعموديّة. الرّب يسوع قَبِل العماد، والرُّوح القدس هبط على شكل حمامة، وسمعنا صوت الآب الذي شهد لابن" (شرح لإنجيل القدّيس متّى، 3). أمَّا عبارة "حَمامةٌ" فتشير الى الصورة التي ظهر بها الروح، وهي تدلّ هنا على خلق العالم الجديد الذي تمّ في معمودية يسوع، وذلك يذكرنا ما ورد في سفر التكوين "كانَتِ الأَرضُ خاوِيةً خالِية وعلى وَجهِ الغَمْرِ ظَلام ورُوحُ اللهِ يُرِفُّ على وَجهِ المِياه" (تكوين 1: 2)؛ وتدلُّ الحمامة على الروح الذي حلّ على المياه في بدء الخليقة الأولى، وهو يحلّ الآن على ماء الاردنّ لتخرج الخليقة الثانية، وهم ابناء الله، وتدل الحمامة أيضا على الحمامة الذي ورد ذكرها في سفينة نوح التي تحمل غصن السلام، وتدل أيضا على الحياة (التكوين 8: 8-12)؛ وهناك من اعتبر الحمامة تمثِّل شعب الله، او تشير الــى محبــة الله كما جاء في النشيد الأناشيد " يا حَمَامَتـي، أَسمِعيني صَوتَكِ فإِنَّ صَوتَكِ لَطيفٌ ومُحيَاكِ جَميل" (نشيد الأناشيد 2: 14 )، وأخيرا تشير الحمامة الى الرب الذي يَشبه طيراً يغمر فراخه كي يحميها "كالعُقابِ الَّذي يُثيرُ عُشَّه وعلى فِراخِه يُرَفرِف" (تثنية الاشتراع 32: 11). وكما أخذ الروح القدس هيئة ألسنة كأنها من نار في يوم العنصرة، (اعمال الرسل 2: 3)، كذلك اخذ الروح القدس هيئة حمامة ليُبيِّن الاتصال بين الروح القدس وبين المسيح. وبكلمة وجيزة، الحمامة رمز السلام والطهارة والوداعة والبراءة والبساطة وهذه ثمار يعطيها الروح لمن يحلُّ عليه. امَّا عبارة " يَنزِلُ علَيه " فتشير الى استقرار الحمامة على رأس الرّب يسوع حتّى لا يظنّ أحد أنّ كلمة الآب كانت موجَّهة إلى يوحنّا وليس إلى الرّب يسوع.

 

17 وإِذا صَوتٌ مِنَ السَّمَواتِ يقول: هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِيت"

تشير عبارة "صوت الآب" الى صوت حقيقي كشهادة الآب، ويرجَّح انه سُمع من قبل كل الحاضرين. ولم يُسمع هذا الصوت منذ إعطاء الشريعة على جبل سيناء، وسُمع مثله وقت التجلي (متى 17: 5) وقبل موت المسيح على الصليب في الجلجلة (يوحنا 12: 28)؛ أمَّا عبارة " هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ" فتشير الى قول نبوي مقتبس من نص سفر صموئيل " أَنَّا أَكونُ لَه أبًا وهو يَكون لِيَ ابنًا"(2 صموئيل 7: 14) وهو يدل على اللقب المنسوب الى المسيح في لوعد لداود الذي هو موضع عزة الله الخاص كما جـــــاء فــــي سفــــر المزامير " أَنتَ اْبني وأَنا اليَومَ وَلَدتُك" (مزمور 2: 7)؛ وامَّا النسبة بين الآب والمسيح فيه نسبة بنوة أزلية. أمَّا عبارة "رَضِيت" فهي مقتبسة من النشيد الأول للعبد المتألم في سفر أشعيا "هُوَذا عَبدِيَ الَّذي أَعضُدُه مُخْتارِيَ الَّذي رَضِيَت عنه نَفْسي قد جَعَلتُ روحي علَيه فهو يُبْدي الحَقَّ لِلأُمَم" (أشعيا 42: 1)، وتشير العبارة أيضا الى الرضى الاختياري للقيام برسالة وكَّلها الله ليسوع. أمَّا عبارة " هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِيت " فتشير الى “صورتين نبويتان "صورة ابن الملك داود وصورة العبد. فقد قدّم متى الإنجيلي يسوع في صورة الملك الذي على مثال داود وصورة عبد الله المتألم كما تحدث عنه النبي أشعيا. قد ورد هنا أقانيم الثالوث الاقدس في هذه اللحظات المقدسة إما منظورة للعيون او مسموعة للآذان البشرية: الله الاب يتكلم، الله الابن يُعمَّد في الماء، الله الروح القدس بشكل حمامة يحلُّ على الابن على انه المخلص الموعود به كما جاء في نبوءة أشعيا "يَحِلُّ علَيه روحُ الرَّبّ "(أشعيا 11: 2)، كان يسوع مع الروح القدس منذ الازل، إنمـــــــا جاء الـــــــروح الآن ليجهّزه لخدمتـه العلنية. منذ بـداية حياته العلنية، أعلن الآب ان يسوع هو ابنه وحبيبه وموضوع مسرّته (مرقس 1: 11). وهذا الإعلان لا يعني ان يسوع قد أدرك لأول مرة علاقته الفردية بالآب، فقد كان مدركا بهذه العلاقة منذ طفولته كما جاء في جوابه الى مريم ويوسف "أَلم تَعلَما أَنَّه يَجِبُ عَليَّ أَن أَكونَ عِندَ أَبي؟") (لوقا 2: 49). ونفس الإعلان نطق به الآب وقت التجلي " وبَينَما هُوَ يَتَكَلَّم إِذا غَمامٌ نَيِّرٌ قد ظلَّلهُم، وإِذا صَوتٌ مِنَ الغَمامِ يقول: ((هذا هَو ابنيَ الحَبيبُ الَّذي عَنهُ رَضيت، فلَهُ اسمَعوا" (متى 17: 5). ويُعلق العلاّمة أوغسطينوس “هنا أمامنا الثالوث متمايزًا، الواحد عن الآخر: الآب في الصوت، الابن في الإنسان، والروح القدس في شكل حمامة. إنهم الله الواحد، ومع ذلك فإن الابن غيْرَ الآب، والآب غيْر َالابن، والروح القدس ليس بالآب ولا بالابن ". الله واحد، ولكنه في نفس الوقت ثلاثة أقانيم. ويذكر الكتاب المقدس الأقانيم الثلاثة معا عدة مرات، قبل صعوده الى السماء قال يسوع لتلاميذه "اذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس" (متى 28: 19) وقال أيضا الى تلاميذه "مَتى جاءَ المُؤَيِّدُ الَّـــذي أُرسِلُه إِلَيكُم مِن لَدُنِ الآب رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب فهُو يَشهَدُ لي" (يوحنا 15: 27).

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 3: 13-17)

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 3: 13-17)، نستنتج انه يتمحور حول عماد يسوع على يد يوحنا المعمدان؛ ومن هذا الإطار يمكننا ان نطرح سؤالين: ما هي ميزة عماد يسوع على يد يوحنا المعمدان؟ ولماذا تعمَّد يسوع؟

1) ما هي ميزة معمودية يسوع على يد يوحنا المعمدان؟

تميّز عماد يسوع عن عماد كل الناس، اذ اظهر معموديته ان يسوع كانت لــــه علاقة فريدة مع الله، إذ تكلل العماد بانفتاح السماوات، وبحلول الروح القدس وإعلان الاب السماوي لبنوة يسوع الإلهية.

ا) الميزة الأولى: انفتاح السماوات

السَّمَواتُ قدِ انفتَحَت" (متى 3: 16 أ)، وهي اللحظة المرتقبة من الأنبياء خاصة أشعيا الذي صرخ بصوت عالٍ: لَيتَكَ تَشُقَّ السَّمواتِ وتَنزِل فتَسيلُ الجِبالُ مِن وَجهِكَ" (أشعيا 63: 19). وهي رؤية مأخوذة من النبي حزقيال "وكانَ مَنظر هذا الضِّياءَ مِن حَوله مِثلَ مَنظَرِ قوسِ الغَمام في يَوم مَطَر. هذا مَنظر يُشبِهُ مَجدَ الرَّبَّ. فَنَظَرتُ وسَقَطتُ على وَجْهي وسَمِعتُ صَوتَ مُتَكَلِّم" (حزقيال 1: 28). "انفتحت" فإنه يعني بذلك ان هنالك علامة على انه بالإمكان رؤية الأمور السماوية كما صرّح يوما يسوع لليهود" فإِذا كُنتُم لا تُؤمِنونَ عِندَما أُكَلِّمُكم في أُمورِ الأَرْض فكَيفَ تُؤمِنونَ إِذا كلَّمتُكُم في أُمورِ السَّماء؟" (يوحنا 3: 12-) 13)، ويُعلق القدّيس غريغوريوس النزيانزيّ "أنفتحت السماوات التي سبق أن أقفَلَها آدم على نفسِه وعلى خاصَّتِه، هذا الفردوس الذي بدأ وكأنّه مُقفَل "بشُعلَةِ سَيْفٍ متقلِّبٍ" (التكوين 3: 24).

"انفتَحَت" السماوات للكشف عن وحي سماوي وهو تدخّل الله لتحقيق مواعده بإرسال الروح القدس ونزول ابنه يسوع على الأرض. اقتربت السماء من الأرض يسوع كما شهد اسطفانس "ها إِنِّي أَرى السَّمواتِ مُتَفَتِّحَة، وابنَ الإِنسانِ قائِمًا عن يَمين الله" (اعمال الرسل 7: 56)، وصل صوت الله الى البشر وعلى يد يسوع كما جاء في نبوءة أشعيا " لَيتَكَ تَشُقَّ السَّمواتِ وتَنزِل فتَسيلُ الجِبالُ مِن وَجهِكَ" (أشعيا 63: 19).

انفتحت السماوات عند عماد السيد المسيح، إنما تحقق ذلك لأجلنا، فأصبحت أبوابها مفتوحة أمامنا، مفتاحها في يدّي يسوع المسيح عريسنا ورأسنا، بل صارت حياتنا الداخلية ذاتها سماوات مفتوحة يسكنها رب السماء! وكما يقول القديس كيرلس أسقف الاسكندرية: "انفتحت السماوات فاقتربَ الإنسان من الملائكة المُقدَّسين". فلتنفتح السماوات أيضًا اليوم وليحل علينا الروح القدس حتى نتجدَّد في أعماق قلوبنا ونسمع صوت الأب الذي يدعونا للانتماء إلى عائلته كأبناء محبوبين.

ب) المميزة الثانية حلول الروح القدس

"رأَى رُوحَ اللهِ يَهبِطُ كأَنَّه حَمامةٌ ويَنزِلُ علَيه" (متى 3: 16 ب)، كانت الحمامة ظاهرة للعيان وليست مجرد تشبيه شعري وهذا ما يؤكده لوقا الانجيلي بإضافة عبارة "في صورةِ جِسْمٍ " (لوقا 3: 22). وهذا الصورة تذكّر بما جاء في سفر التكوين "ورُوحُ اللهِ يُرِفُّ (كطائر) على وَجهِ المِياه" (1: 2). ها هو يرفُّ على مياه الأردن ليُقيم منَّا نحن الأموات جسدًا حيًا مُقدَّسًا للرأس القدوس النازل في مياه الأردن. إنه الروح الإلهي الذي يُشكِّل الشعب الجديد خلال الخروج الجديد! إن المسيح قبِلَ الروح، وذلك كإنسان كي يمنح الخلاص للبشرية كما جاء في عظة بطرس الرسول " كَيفَ أَنَّ اللهَ مَسَحَه بِالرُّوحِ القُدُسِ والقُدرَة، فمَضى مِن مَكانٍ إِلى آخَر يَعمَلُ الخيرَ ويُبرِئُ جَميعَ الَّذينَ استَولى علَيهم إِبليس" (اعمال الرسل 10: 38)؛ ومن حيث إنه إنسان أخذ يسوع في ذاته الطبيعة الانسانية كلها ليصلحها كلها ويُعيدها الى كمالها. ولهذا يهب الآب روحه مجدّدا للابن، لنحصل نحن به على الروح القدس. وفي هذا الصدد يقول القديس كيرلس أسقف الاسكندري "إن المسيح لم يقبل الروح لنفسه، بل قَبِله في نفسه من أجلنا: وفي الواقع جميع الخيرات تأتينا عن طريقه" (PG 73: 751-754).

وشهد يوحنا المعمدان عن المسيح قائلا: "رَأَيتُ الرُّوحَ يَنزِلُ مِنَ السَّماءِ كأَنَّه حَمامَة فيَستَقِرُّ علَيه. وأَنا لَم أَكُنْ أَعرِفُه، ولكِنَّ الَّذي أَرسَلَني أُعَمِّدُ في الماءِ هو قالَ لي: إِنَّ الَّذي تَرى الرُّوحَ يَنزِلُ فيَستَقِرُّ علَيهِ، هو ذاكَ الَّذي يُعَمِّدُ في الرُّوحِ القُدُس. وَأَنا رأَيتُ وشَهِدتُ أَنَّه هو ابنُ الله" (يوحنا 1: 32-34). وهنا ربطٌ بين معمودية السيد المسيح وحلول الروح القدس، وإظهارٌ لحقيقة أن المسيح هو الذي يعمِّد بالروح القدس، بمعنى أن الروح القدس حلَّ على السيد المسيح كبداية للعهد الجديد، لكي يحلَّ على المؤمنين عبر المعمودية أي الولادة من الماء والروح، لذلك نحتفل بعد عماد المسيح كتمجيد للرب الذي تنازل وأتى ليخلصنا وأعلن عن نفسه في هذا العيد من خلال شهادة السماء، ومن خلال شهادة يوحنا المعمدان.

نستنتج مما سبق، إن حلـــــول الــــــروح القدس علــــى المسيح كان لتكريسه وإعـداد جسده لتقديمه ذبيحة، ويقول القديس كيرلس: "حلّ أولاً على المسيح الذي قَبِلَ الروح القدس لا من أجل نفسه، بل من أجلنا نحن البشر، لأننا به وفيه ننال "نعمة على نعمة" (يوحنا 1: 16). فحلول الروح القدس على يسوع هو علامة تنصيب يسوع تتميماً لما جاء في نبوء ة أشعيا " يَحِلُّ علَيه روحُ الرَّبّ روحُ الحِكمَةِ والفَهْم روح المَشورَةِ والقُوَّة روحُ المعرفةِ وتَقوى الرَّبّ " (أشعيا 11: 2)، وهو في الوقت نفسه إعلان عن العنصرة، التي تدشّن تأسيس العماد بالروح امام الكنيسة كما جاء في اعمال الرسل "ِأَنَّ يوحَنَّا قد عَمَّدَ بِالماء، وأَمَّا أَنتُم ففي الرُّوحِ القُدُسِ تُعَمَّدونَ بَعدَ أَيَّامٍ غَيرِ كثيرة" (اعمال الرسل 1: 5) ولكل الذين يدخلون فيها (أفسس 5: 25-32).

 

وحلول الروح القدس على يسوع هو شهادة على انه ابن الله، كما يُعلق القدّيس غريغوريوس النزيانزيّ "لقد شَهِدَ الروح على ألوهيّة المسيح"؛ وهنا نجد أقانيم الثالوث الاقدس في هذه اللحظات المقدسة، والثالوث معناه ان الله ثلاثة أقانيم، ولكنه واحد في الجوهر. فالله واحـد في طبيعته، ولكنه فـي نفس الوقت ثلاثة أقانيـم: فالله الاب تكلم، والله الابن اعتمد، والله الروح القدس نزل على يسوع.

وقد ظهر الثالوث الاقدس في عماد السيد المسيح ظهورا متمايزًا، لكنه غير منفصل: الابن المتجسد خارجا من المياه لكي يهبنا الخروج من خطايانا لندخل به وفيه إلى شركة مجده، والروح القدس نازلاً على شكل حمامة ليُقيم كنيسة المسيح، وصوت الآب صادرًا من السماء مُعلنا بنوتنا له في ابنه، ويُقيم منا "حِجارَةِ حَيَّة" روحية لبناء الكنيسة الأبدية (1 بطرس 2: 5). لكن يجب تأكيد ما قاله القديس أوغسطينوس: "هذا ما نتمسك به بحق وبغيرة شديدة، وهو أن الآب والابن والروح القدس ثالوث غير قابل للانفصال، إله واحد لا ثلاثة".

وأخيرا، حلَّ الروح القدس على يسوع لتقديسنا؛ المسيح لم يكن محتاجاً للمعمودية، لكن معمودينا هي التي كانت محتاجة للمسيح لكي يقدَّس الماء لنعتمد نحن بالماء والروح. ففي المعمودية نموت مع المسيح ونقوم معه فنصبح مستعدِّين لحلول الروح القدس فينا. وكان قبول المسيح للمعمودية هو قبول للموت كما صرّح يسوع " عَلَيَّ أَن أَقبَلَ مَعمودِيَّةً، وما أَشَدَّ ضِيقي حتَّى تَتِمّ! (لوقا 12: 50). ونحن نموت معه في المعمودية ليُدخلنا معه بقيامته للأمجاد السماوية.

ج) المميزة الثالثة: إعلان الآب السماوي لبنوَّة يسوع الإلهية

سُمع صوت الآب يشهد لابنه أثناء عماده: "إِذا صَوتٌ مِنَ السَّمَواتِ يقول: هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِيت" (متى 3: 17)؛ منذ بداية الحياة العلنية، أعلن ألآب ان يسوع هو ابنه الحبيب وموضوع مسرته: "أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضيت". وهذا استشهاد من نشيد "عبد الله المتألم" في أشعيا (أشعيا 42: 1) يربط عماد الرب يسوع بآلامه وموته وقيامته ويعطي لعيد العماد طابع عيد القيامة. وتذكّر كلمة الحبيب بذبيحة إسحاق "خُذِ اَبنَكَ وَحيدَكَ الَّذي تُحِبُّه، إِسحق، وآمضِ إِلى أَرضِ المورِيِّا وأَصعِدْه هُناكَ مُحرَقَةً على أَحَدِ الجِبالِ الَّذي أريكَ " (التكوين 22: 2).

في العهد القديم سمع الصوت الإلهي خلال النبوة " هُوَذا عَبدِيَ الَّذي أَعضُدُه مُخْتارِيَ الَّذي رَضِيَت عنه نَفْسي قد جَعَلتُ روحي علَيه فهو يُبْدي الحَقَّ لِلأُمَم." (أشعيا 42: 1). والآن جاء الصوت عينه من السماء ليؤكِّد أن يسوع هو كلمة الله، الابن الوحيد الذي صار خادماً لتحقيق رسالة الخلاص كما جاء في تعليم بولس الرسول "فلَمَّا ظَهَرَ لُطْفُ اللهِ مُخَلِّصِنا ومَحَبَّتُه لِلبَشَر، لم يَنظُرْ إِلى أَعمالِ بِرٍّ عمِلْناها نَحنُ، بل على قَدْرِ رَحَمَتِه خَلَّصَنا بِغُسْلِ الميلادِ الثَّاني والتَّجديدِ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ الَّذي أَفاضَه علَينا وافِرًا بِيَسوعَ المسيحِ مُخَلِّصِنا" (طيطس 3: 4-6).

جاء هذا الصوت من أجلنا نحن حتى نُدرك أننا فيه ننعم بسرور الآب السماوي، ونُحسب أبناء له بالتبني من خلال مياه المعمودية، وعمل روحه القدوس، فنصبح خليقة جديدة. وفي هذا الصدد يقول القديس كيرلس: "المسيح هو حقًا ابن الله الوحيد، وإذ صار شبيهاً لنا أعْلنت بنوته لا من أجل نفسه، لأنه كان ولا يزال وسيبقى الابن، لكن هذه البنوة أُعلنت من أجلنا نحن البشر الذين صرنا أبناء الله، لأن المسيح بِكرنا وسندنا. إذ ورد: "فإِذا كانَ أَحَدٌ في المسيح، فإِنَّه خَلْقٌ جَديد. قد زالتِ الأَشياءُ القَديمة وها قد جاءَت أشياءُ جَديدة" (2 قورنتس 5: 17).

وقد سُمع صوت ألاب ايضا يوم التجلي "ظَهَرَ غَمامٌ قد ظَلَّلَهم، وانطَلَقَ صَوتٌ مِنَ الغَمامِ يَقول: هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيب، فلَهُ اسمَعوا" (مرقس 9: 7)، وسُمــــع ايضا صوت الآب يشهد امـــــــام اليونانيين الذين جــاءوا يروا يسوع "فانطَلَقَ صَوتٌ مِنَ السَّماءِ يَقول: قَد مَجَّدتُه وسَأُمَجِّدُه أَيضًا" (يوحنا 12: 28). وهذه الكلمات تذكرنا بما جاء في المزمور "أَنتَ اْبني وأَنا اليَومَ وَلَدتُكَ" (مزمور 2: 7).

بالرغم من أننا نجد هنا اعلانا صريحا للثالوث الاقدس الاَّ ان التركيز النهائي على الابن، فمع ان الله ثالوث فإن اول لقاء للإنسان معه يجب دائما في المسيح كما صرّح هو نفسه " لأَنَّكُم، بِمَعزِلٍ عَنِّي لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا شيئاً"(يوحنا 1يوحنا 15:5). لا توجد "حياة" روحية ممكنة خارج المسيح: خُلق الانسان ليعيش في "المسيح" ابن الله الحي، كما شهد القديس بولس الرسول بقوله "الحَياةُ عِندي هي المسيح" (فيلبي 1: 21). فإعلان يسوع ابن الله، يجعلنا ان نشترك في بنوته نتيجة لهبات الروح القدس كما جاء في تعليم بولس الرسول "والدَّليلُ على كَونِكُم أَبناء أَنَّ اللهَ أَرسَلَ رُوحَ ابنِه إِلى قُلوبِنا، الرُّوحَ الَّذي يُنادي: (أَبَّا)، (يا أَبتِ)" (غلاطية 4: 6).

 

المؤمن الذي يقبل العماد باسم الثالوث الاقدس يصير هيكلا للروح القدس كما جاء في تعليم بولس الرسول "أوَما تَعلَمونَ أَنَّ أَجسادَكُم هي هَيكَلُ الرُّوحِ القُدُس، وهو فيكُم قد نِلتُمُوه مِنَ الله، وأَنَّكُم لَستُم لأَنفُسِكُم؟"(1 قورنتس 6: 19) ويصبح المعمَّد ابناً بالتبني للاب، " الدَّليلُ على كَونِكُم أَبناء أَنَّ اللهَ أَرسَلَ رُوحَ ابنِه إِلى قُلوبِنا، الرُّوحَ الَّذي يُنادي: أَبَّا، يا أَبتِ" (غلاطية 4: 6) واخا وارث مع المسيح فيشاطره مجده ِ "فلَستَ بَعدُ عَبْدًا بلِ ابنٌ ، وإِذا كُنتَ ابنًا فأَنتَ وارِثٌ بِفَضْلِ اللّه"( غلاطية 4: 7) .

2) لماذا تعمَّد يسوع على يد يوحنا؟

يتساءل القديس كيرلس أسقف الاسكندرية: "هل كان المسيح في حاجة إلى العماد المقدس؟ وأية فائدة تعود عليه من ممارسة هذه الفريضة؟ فالمسيح كلمة الله، قدوس كما يصفه النبي أشعيا في مختلف التسابيح "قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوس، رَبُّ القُوَّات، الأَرضُ كُلُّها مَمْلوءَةٌ مِن مَجدِه" (أشعيا 6: 3). لم يكن يسوع خاطئاً كي يعتمد؛ فقد ورد: "إنَّه لم يَرتكِبْ خَطيئَةً ولَم يُوجَدْ في فَمِه غِشّ" (1 بطرس 2: 22)، "قُدُّوسٌ بَريءٌ نَقِيٌّ ومُنفَصلٌ عنِ الخاطئين، جُعِلَ أَعْلى مِنَ السَّمَوات" (عبرانيين 7: 26). والكنيسة الاولى بقيت راسخة غير متزعزعة في إيمانها بعصمته المطلقة عن الخطيئة؛ انما تعمّد يسوع لثلاث غايات:

(أ‌) الغاية الأولى: اعتمد "كي نُتِمَّ كُلَّ بِر" (متى 3: 15)

أعتمد يسوع ليتمَّ كل بِرٍّ تتميماً لما تنبَّأ به أشعيا النبي " أَنا الرَّبَّ دَعَوتُكَ في البِرّ وأَخَذتُ بِيَدِكَ وجَبَلتُكَ وجَعَلتُكَ عَهداً لِلشَّعبِ ونوراً لِلأُمَم لِكَي تَفتَحَ العُيونَ العَمْياء وتُخرِجَ الأَسيرَ مِنَ السِّجْن والجالِسينَ في الظُّلمَةِ مِن بَيتِ الحَبْس" (أشعيا 42: 6-7). وأمَّا بولس الرسول فعبَّر عن هذا بقوله " ذاكَ الَّذي لم يَعرِفِ الخَطيئَة جَعَله اللهُ خَطيئَةً مِن أَجْلِنا كَيما نَصيرَ فيه بِرَّ الله " (2 قورنتس 5: 21). إنه حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم.

والبِرُّ في أسلوب يسوع معناه القداسة والتقوى القائمة في ممارسة الشريعة، وبالتالي طاعة روحية وأمانة لوصايا الله وإرادته الإلهية بعيدا عن المفهوم الحرفي الضيّق للوصايا. والمسيح اتمَّ الديانة المبنيَّة على الشريعة، واتمَّ بأمانة إرادة الله. ويُعلق القديس ايرونيموس "بما ان المسيح وُلِد إنسانًا، أراد تحقيق جميع الفرائض الوضيعة للشريعة" (شرح لإنجيل القدّيس متّى، 3).

ويدل البِرُّ بمفهوم متى الانجيلي على الامانة الشخصية في العمل بمشيئة الله. ومشيئة الله في يسوع هي التضامن مع الخاطئين ليُخلصهم، لا ليدينهم بل ليُبشِّرهم بالسلام والخير ويُبرئ جميع الذين استولى عليهم ابليس ويجعلهم خليقة جديدة. فكانت معمودية يسوع خطوة لا بدَّ من اتخاذها حتى يُتمِّم يسوع مشيئة الله.

وسلك يسوع بمعموديته على يد يوحنا طريق التواضع، وهو كمال كلِّ برٍ. وان مبادرة تواضع يسوع في اعتماده على يد يوحنا مكَّنته من الحصول على تنصيبه مسيحا. ويُعلق القديس أوغسطينوس "جاء يسوع واعتمد على يد يوحنا، الرب بواسطة العبد، مثالًا للتواضع. أظهر لنا في تواضع أن المحبّة قد كملت".

وهذه المعمودية رمز الى المعمودية العظمى التي كان على المسيح ان يجتازها على الجلجلة حيث كان مزمعا ان يتمم إرادة الله ومخططه في ارساله الى العالم كي يأخذ مكان الخاطئ ويُحيه ويكون عهداً للشعب ونوراً للأمم. وهذه المعمودية العظمى يدعوها انجيل متى "الموت والقيامة" إذ قال يسوع ليوحنا ويعقوب ابني زبدى "إِنَّكُما لا تَعلَمانِ ما تسأَلان: أَتستطيعانِ أَن تَشرَبا الكأَسَ الَّتي سَأَشرَبُها؟ " (متى 20: 22).

وبقبوله معمودية يوحنا أعلن يسوع أنه يقبل مهمته أي موته، وأنه يطيع حتى الموت موت الصليب. فالمعمودية هي مثال لسر موته وقيامته. وعُمَّاده في نهر الاردن كان بمثابة اعلان التزامه في تقديم رسالة الخلاص لكل الناس. وقد اوصى يسوع تلاميذه بان يتذكروا رسالة الخلاص الذي قدّمها على الصليب في كل قداس يقيمونه في العالم بقوله لهم " هذه الكَأسُ هي العَهْدُ الجَديدُ بِدَمي. كُلُّمَا شَرِبتُم فاصنَعوه لِذِكْري" (1 قورنتس 11: 25).

وأسَّس المسيح سر المعمودية الذي به يُكمل كل بر للإنسان، فصار هناك وسيلة يتبرَّر بها الإنسان الذي كان قد حُكِمَ عليه بالموت بسبب الخطيئة. فبموتنا مع المسيح وقيامتنا معه نتبرر. والتبرير يشتمل على غفران الخطيئة، وذلك يتمُّ من خلال موتنا مع المسيح من ناحية، واتحادنا مع المسيح من ناحية أخرى.

(ب) اعتمد يسوع كي يتضامن مع الخطأ

 

لم يبدا يسوع رسالته العلنية معلنا انه المسيح المنتظر الذي جاء لهزيمة الشر بقوته، ولكنه جاء وضع نفسه بجانب الإنسان ويتضامن مع الناس الخاطئين لان الحب يلغي المسافة بين الله والخاطئ. جاء يسوع واعتمد ليس من أجل نفسه، بل من أجلنا نحن البشر. غطس المسيح في مياه الأردن، لكي نستطيع الغطس معه والخروج منها، أحياء، مولودين من جديد من الماء والروح. لم يحتاج يسوع الى توبة ولم تكن لديه خطايا ليعترف بها، لأنه لم يخطئ قط، ومع ذلك أخذ بخضوعه للمعمودية مكان الخاطئ، واعترف بخطيئة الشعب مثلما فعل وموسى ودانيال ونحميا وعزرا. وهكذا تعمّد يسوع ليتضامن مع الخاطئين، فوحّد نفسه مع عامة الشعب كما تنبأ عنه أشعيا "أُحصِيَ مع العُصاة وهو حَمَلَ خَطايا الكثيرين وشَفَعَ في مَعاصيهم" (أشعيا 53: 12). فقد جعل نفسه واحداً معنا في بشريتنا، وحمل على نفسه خطايانا.

واعتمد يسوع ليرى العالم فيه المسيح المُرسل الذي يتضامن مع الخاطئين وعامة الشعب. فالمسيح أسس سر المعمودية، فمن خلال هذا العماد يدخل المعتمد إلى حياة الله التي ظهرت بيسوع المسيح، فكل معمَّد بعد ذلك حين نزوله للماء وصعوده منه يموت مع المسيح ويقوم معه. ويدخل يسوع على حياة المعتمد، فيصبح الاثنان شخصاً واحداً. وفي هذا الصدد يعلق القديس غريغوريوس النازيانزي" أعتمد المسيح، فننزل معه الى جرن المعمودية، حتى نصعد معه أيضا" (الخطاب 39 في الانوار المقدسة).

وشهد صوت الآب ان يسوع الذي يضع نفسه في عداد الخاطئين هو ابن الله في الواقع. "هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِيت" (متى 3: 17). يجمع متى الانجيلي في يسوع ابن الله وابن الانسان الذي اختاره الله للقيام برسالة الخلاص. وقد تمّ هذه الاعلان ايضا وقت التجلي (متى 17: 5). وعماد يسوع هو مثال لعمادنا. أُعلن أنه ابن الله في عماده. ونحن، في قبولنا العماد نصبح حقا أبناء الله وخليقة جديدة. فلا يمكن لأي إنسان ان يعُمّد ذاته، كما أن لا أحد يلد ذاته للوجود، بل يجب قبوله بالدخول في المعمودية.

ويقول القديس مكسيمس، أسقف تورينو " أعتمد يسوع لا ليُقدَّس بالمياه، بل ليُقدِّس المايه، فيُطهَّر بطهارته كل ما تمسُّه المياه" (العظة 100في عيد ظهور الرب 1: 3). وهكذا تعمّد يسوع ليقدّس ينابيع المياه، ولكي تكون المعمودية التي أمر بها المدخل الى ملكوته، والشرط لالتحاق بكنيسته إذ قال: "ما مِن أَحَدٍ يُمكِنَه أَن يَدخُلَ مَلَكوتَ الله إِلاَّ إِذا وُلِدَ مِنَ الماءِ والرُّوح (يوحنا 3: 5). يقول القديس كيرلس أسقف الاسكندرية: "لم يُعَّمد يسوع ليُطهر، وإنما ليطهِّر الماء، فإذ نزل إليها المسيح الذي لم يعرف أية خطيئة، صار له سلطان على التطهير، وبذلك فإن كل من يدفن في جرن المسيح يترك فيه خطاياه". ويصرِّح القديس بروقلوس، أسقف القسطنطينية: "مياه المعمودية، بقوة يسوع من تعمّد فيها، تُعيد الحياة الى الموتى". كقول الرسول بولس: فدُفِنَّا مَعَه في مَوتِه بِالمَعمُودِيَّةِ لِنَحْيا نَحنُ أَيضًا حَياةً جَديدة" (رومة 6: 4). وفي هذا الصدد جاء قول العلامة ترتليانوس: "يا لقدرة نعمة المياه في نظر الله ومسيحه لتثبيت المعمودية! لن تجد المسيح بدون المياه!".

تعمَّد يسوع ليُقدِّم لنا مثالا لنتبعه، كما يشهد بولس الرسول: "فقد ظهرت نعمةُ الله، ينبوعُ الخلاص لجميع الناس، وهي تعلمنا " (طيطس 2:11). والآن أخذنا المسيح مثلنا الأعلى، فلنقترب إلى نعمة العماد الأقدس. فيفتح لنا الله الأب أبواب السماوات ويرسل لنا الروح القدس، الذي يقبلنا كأبناء له، "أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضيت" (مرقس 1: 11). فالمعمودية تقيم علاقة شخصية مع يسوع المسيح، وتجعلنا أعضاء في جسده السري أي الكنيسة، وتغفر خطايانا وتُعلن بدء حياة جديدة كابن الله وكأخ ليسوع المسيح نفسه، ويؤكد ذلك بولس الرسول "أَوَتَجهَلونَ أَنَّنا، وقَدِ اَعتَمَدْنا جَميعًا في يسوعَ المسيح، إِنَّما اعتَمَدْنا في مَوتِه فدُفِنَّا مَعَه في مَوتِه بِالمَعمُودِيَّةِ لِنَحْيا نَحنُ أَيضًا حَياةً جَديدة كما أُقيمَ المَسيحُ مِن بَينِ الأَمواتِ بِمَجْدِ الآب؟ (رومة 5: 4)، فمعموديتنا هي سر هذا العبور من الموت مع المسيح إلى الحياة معه.

 

ج) اعتمد يسوع تكريسا لخدمته العلنية

 

كان يسوع على أهبة خدمته العلنية فكرّس نفسه بمعموديته لكي يتلقى قوة الروح القدس لتنفيذ مهمته المسيحانية. ويتكلم أشعيا على هذه المهمة بقوله "قد جَعَلتُ روحي علَيه فهو يُبْدي الحَقَّ لِلأُمَم. أَنا الرَّبَّ دَعَوتُكَ في البِرّ وأَخَذتُ بِيَدِكَ وجَبَلتُكَ وجَعَلتُكَ عَهداً لِلشَّعبِ ونوراً لِلأُمَم لِكَي تَفتَحَ العُيونَ العَمْياء وتُخرِجَ الأَسيرَ مِنَ السِّجْن والجالِسينَ في الظُّلمَةِ مِن بَيتِ الحَبْس" (أشعيا 42: 1، 6-7). فنزول الروح القدس على يسوع هو تأكيد لتكريسه للخدمة العلنية كما جاء في تعليم بطرس الرسول "وأَنتُم تَعلَمونَ الأَمرَ الَّذي جرى في اليَهودِيَّةِ كُلِّها وكانَ بَدؤُه في الجَليل بَعدَ المَعمودِيَّةِ الَّتي نادى بِها يوحَنَّا، في شأنِ يسوعَ النَّاصِرِيّ كَيفَ أَنَّ اللهَ مَسَحَه بِالرُّوحِ القُدُسِ والقُدرَة، فمَضى مِن مَكانٍ إِلى آخَر يَعمَلُ الخيرَ ويُبرِئُ جَميعَ الَّذينَ استَولى علَيهم إِبليس، لأَنَّ اللهَ كان معَه"(اعمال الرسل 10: 37-38).

 

إنَّ المسيحَ قَبِلَ الروحَ، وذلك كإنسان. ولم يقبَلِ الابنُ الوحيدُ الروحَ القدسَ لنفسِه بل في نفسه من أجلنا. فهو روحُه، ويقيمُ فيه، وبه يُوهَبُ. ومن حيث إنه إنسان أخذ يسوع في ذاته الطبيعة الانسانية كلها ليصلحها كلها ويُعيدها الى كمالها. ويُعلق القديس كيرلس "حلّ أولاً على المسيح الذي قبل الروح القدس لا من أجل نفسه بل من أجلنا نحن البشر، لأننا به وفيه ننال "نعمة على نعمة" (يوحنا 1: 16).

 

وفي الواقع، جميع الخيرات تأتينا عن طريق يسوع المسيح. جاء الروح ليمسح يسوع في خدمته العلنية. ومن هذا المنطلق، فإنَّ بالمعمودية بدأ يسوع رسميا خدمته العلنية (يوحنا 1: 31-34). وغرض هذه الخدمة هي مقاومة قوة الشيطان في الناس وكسر شوكته ليُخلص الانسان من الخطيئة والموت وليُعيد إليه نعمة الخلاص والحياة الابدية.

 

وقبل الآب تكريس الابن نفسه "هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِيت" (متى 3: 17)، ولذلك، يهب الآن الآب روحه مجدّدا للابن، لنحصل نحن به على الروح. والروح الإلهي يُشكل الشعب الجديد خلال الخروج الجديد! ونحن نستطيع أن نُدرك مدى أهمية المعموديّة من كلمات القديس ايرونيموس "لم يكرز المخلّص نفسه بملكوت السماوات إلاّ بعد تقديسه الأردن بتغطيسه في العماد". والكنيسة تهتم بالمعمودية لأنه حتى المسيح لم يبدأ خدمته إلا بعد أن اعتمد. بالمعمودية نصح الانسان الجديد الذي ينال الروح القدس ويعيش بحب بنوي مع الله في تواضع وإيمان.

 

الخلاصة

 

ركز متى الإنجيلي ليس على تواضع يسوع واعتماده في نهر الاردن بقدر تركيزه على صوت الآب الذي سُمع من السماء "هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت" كي يشهد انه ابن الله كما أكد يوحنا المعمدان "وَأَنا رأَيتُ وشَهِدتُ أَنَّه هو ابنُ الله (يوحنا 1: 34). فالرّب يسوع المسيح هو ابن بالطبيعة، ابنٌ حقيقيّ، وليس ابنًا بالتبنّي اما نحن المعمَّدين فأصبحنا أبناء الله بالتبنّي، وفقًا للنعمة، كما كُتِبَ: "أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله" (يوحنا 1: 12). ونحن قد وُلِدنا بالماء والروح (يوحنا 3: 5)، غير أنّ الرّب يسوع المسيح لم يولد من الآب بالطريقة نفسها. لأنّه في وقت اعتماده، رفعَ الله الصوت وقالَ: "هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ". ويعلق القديس كيرلس الاورشليمي " هو لم يقلْ هذا أصبح الآن ابني"، بل هذا هُوَ ابنِيَ، ليُظهرَ أنّه حتّى قبل عماده كان ابنا".

 

وقد حلّ الروح القدس على يسوع لدى اعتماده على يد يوحنا كي يرى العالم فيه المسيح المُرسل الذي يحمل بُشرى الخلاص الى معشر الناس، كما أعلن سمعان الشيخ " قَد رَأَت عَينايَ خلاصَكَ الَّذي أَعدَدَته في سبيلِ الشُّعوبِ كُلِّها نُوراً يَتَجَلَّى لِلوَثَنِيِّين ومَجداً لِشَعْبِكَ إِسرائيل" (لوقا 2: 30)، وذلك تتميما "لنبوءة أشعيا "هاءَنَذا جَعَلتُه لِلشُّعوبِ شاهِداً، لِلشُّعوبِ قائِداً وآمِراً" (أشعيا 55: 4).

ظهر الرب في عماده انسانا والها، فلِنَسِرْ في نورِ الرَّبّ" (أشعيا 2: 5) ولنعكس حياته بأعمالنا وحياتنا كما اوصانا الرب لْيُضِئْ نُورُكُم لِلنَّاس، لِيَرَوْا أَعمالَكُمُ الصَّالحة، فيُمَجِّدوا أَباكُمُ الَّذي في السَّمَوات ” (متى 5: 16) ووثيقة العماد لا تجدينا نفعا إن لم نجعل من حياتنا بالعماد انجيلا حيّا وشهادة لنخلص نفوسنا ونقود الآخرين ليسوع ليقبلوه ربا والها ومخلصا. لذا لنجتهد ان نكون أبناء الله حقيقيين وتلاميذاً مخلصين في سماع صوت المسيح ربنا والهنا. آمين.

دعاء

يا من تجسّدت واعتمدت اليوم في مياه الأردن، آتياً من ذات الله المطلقة واللامتناهية لتشفي جراح بشرّيتنا وتقودها إلى ما وراء الآفاق الضيّقة، لتبلغ بنا نحو سّر الأبد حيث نجد كياننا وغاية وجودنا، إملاءنا من فيض روحك، وجدّدنا بروحك القدوس الذي يُطّهر عمق نفوسنا ويجعل منها هياكل مقدّسة حيّة لروحك القدوس، وألهمنا فنتحرّر من خطايانا ونحيا سّر عمادنا الذي هو نعمة تفوق إدراكنا فنكون موضع رضاك على الدوام. أمين.

مكان عماد الرب

التسمية:

مكان عماد الرب او المَغْطس هو المكان الذي تعمد فيه السيد المسيح على يد يوحنا المعمدان كما روى انجيل متى " في ذلِكَ الوَقْت ظَهَرَ يسوع وقَد أَتى مِنَ الجَليلِ إِلى الأُردُنّ، قاصِداً يُوحنَّا لِيَعتَمِدَ عن يَدِه ..." (متى 3: 13 -17).

الموقع:

يحدد متى الإنجيلي مكان العماد في نهر الأردن حيث يقول "في ذلِكَ الوَقْت ظَهَرَ يسوع وقَد أَتى مِنَ الجَليلِ إِلى الأُردُنّ، قاصِداً يُوحنَّا لِيَعتَمِدَ عن يَدِه" (متى 3: 13)، ويوضح يوحنا الإنجيلي المكان بقوله “وجَرى ذلك في بَيتَ عَنْيا عِبْرَ الأُردُنّ، حَيثُ كانَ يوحَنَّا يُعَمِّد" (يوحنا 1: 28)، وفي موضع آخر يقول " وكانَ يوحَنَّا أَيضاً يُعَمِّدُ في عَيْنون، بِالقُرْبِ مِن سالِيم لِما فيها مِنَ الماء، وكانَ النَّاسُ يَأتونَ فيَعتَمِدون (يوحنا 3: 23).

وحدَّد التقليد موقعين لذكر عماد الرب على يد يوحنا المعمدان أحدهما على الضفة الغربية من نهر الاردن الواقعة حاليا في فلسطين، والأخر على الضفة الشرقية الواقعة حاليا في الأردن.

 

التاريخ:

منذ القرون الأولى كان المؤمنون يأتون الى ضفاف نهر الأردن ويستحمُّون في مياه الأردن في روح التقوى ذكرى لعماد الرب. وكانوا يأملون ان يروا المكان الذي فيه " ووَطِئَت أَقْدامُ الكَهَنَةِ، حامِلي التَّابوت، ضَفَّةَ المِياه-والأُردُنُّ " لدى عبور اليهود من أريحا إلى ارض الميعاد (يشوع 3: 14-16)، او المكان الذي بأمر النبيين إيليا واليشاع " انفَلَقَت إِلى هُنا وهُناك، وعَبَرا كِلاهُما على اليَبَس" (2 ملوك 2: 8)، وخاصة ان يروا مكان عماد الرب كما يقول ايرونيموس “حيث قدّس الرب بعماده المياه التي تلوَّثت يوم الطوفان الذي دمر البشرية " (الحج باولا، 14).

وفي القرون الأولى كان يذهب كثيرون من الموعوظين الذين كانوا يستعدُّون للعماد الى نهر الأردن لقبول العماد في نفس المياه الذي تعمّد فيها " يسوع، حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم" (يوحنا 1: 29).

وفي القرن السادس، يروي الحاج المجهول الهوية المعروف بلقب أنطونيو بياشنسا " عام 570 م انه " كان الجمع يتوافدون في عيد الغطاس الى نهر الاردن كي يغطسوا في أمواج مياهه منذ فجر النهار". ( Antonini Placentini Itinerarium).

وفي القران السادس أطلق على موقع حيث كان موقع عماد يسوع في خارطة مأدبا في الضفة الغربية

وفي ذكرى عماد الرب يأتي الحجاج إلى المغطس في نهر الاردن ولا سيما في عيد الغطاس مشتقة من فعل غطس الماء إشارة إلى معمودية السيد المسيح على يد يوحنا المعمدان وهو يصادف السادس من كانون الثاني من كل عام. والتغطيس في الماء مستوحاة من رسالة بولس إلى أهل رومية: قَدِ اَعتَمَدْنا جَميعًا في يسوعَ المسيح، إِنَّما اعتَمَدْنا في مَوتِه فدُفِنَّا مَعَه في مَوتِه بِالمَعمُودِيَّةِ لِنَحْيا نَحنُ أَيضًا حَياةً جَديدة كما أُقيمَ المَسيحُ مِن بَينِ الأَمواتِ بِمَجْدِ الآب؟ " (رومه 6: 3-4).

وفي هذا اليوم لا يأتي فقد المؤمنون الذين يريدون ان يتعمدوا فقط بل ايضا كل الناس يتبعون الكهنة للاغتسال في أمواج النهر الأردن المقدسة بروح التقوى والايمان لابسين الثوب الأبيض ليحتفظوا به بحرص ليوم دفنهم. ويُغرس صليب خشبي في وسط النهر لتحديد الموقع عمّد يوحنا المعمدان السيد المسيح حيث " انفتَحَت السماوات وَهبِطُ الروح القدس كأَنَّه حَمامةٌ وَنزِلُ علَى ابنِ الله الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِي" (متى 3: 15-15)

وفي العهد التركي كانت الوفود تذهب الى نهر الأردن برفقة جنود الاتراك لحمايتهم من اللصوص وقطاع الطرق. وبقي الحال كذلك الى عهد الانتداب البريطاني.

في الحرب أيام الستة عام 1964 توقف توافد الجموع المؤمنة الى نهر الأردن لإحياء ذكرى عماد الرب الا مرة واحدة في السنة بسبب وقوع مكان في منطقة الحدود بين الاردن وإسرائيل فأصبح الحجاج يتوافدون كموقع بديل لذكرى عماد الرب في "ياردنيت " الذي يقع في الجنوب الغربي من بحيرة طبرية وغربي كيبوتس دغانيا.

وفي هذه الأيام يتوافد المؤمنون الى موقعين لذمر عدي الغطاس او عماد الرب. وتم إعادة فتح موقع "المغطس" للحجاج المسيحيين في منتصف التسعينيات من القرن الماضي.

 

1) موقع عماد الرب في فلسطين

يُسمى موقع عماد الرب في فلسطين دير أو كنيسة يوحنا المعمدان أو المغطس. يقع المغطس على بُعد 600 متراً عن نهر الأردن. و6 كم عن أريحا.

(1) التاريخ

ومنذ القرن الرابع أحيا المسيحيون في هذا الموقع ذكرى عماد يسوع على يد يوحنا (متى 3: 13-17). فأقيمت في بداية القرن الخامس كنيسة لذكرى لمعمودية يسوع. ويسمونها الروم اليونانيون الكنيسة باسم برودرومس Prodromos (ومعناها السابق للرب أي يوحنا المعمدان الذي تقدّم الرب ليعّد طرقه) ويُقال لها أيضا "قصر اليهود" ذكرى لعبور بنو إسرائيل من نهر الاردن إلى ارض الميعاد (يشوع 3: 14-16).

وفي بداية القرن الخامس زارت القديسة مريم المصرية (توفيت عام 431) يوم اهتدائها قبل عبورها إلى الضفة الشرقية من نهر الأردن حيث قضت حياتها متنسكة في الصحراء.

وقد هُدمت هذه الكنيسة على أثر زلزال عام ام 1034 ثم أعاد بناها الإمبراطور مانويل الأول كومنينوس (1143-1180). ثم تعرض الدير فيما بعد إلى سلسلة من الهدم والبناء.

وفي عام 1882 أعاد الروم الأرثوذكس البناء الدير، فحافظوا على مصلى من العصور الوسطى كمغارة تحوي على بقايا من النحت من العصور المختلفة وقطع فسيفساء من الكنيسة البيزنطية من القرن الخامس.

وفي عام 1927 تعرضت الكنيسة مرة أخرى إلى زلزال هدم الطابق الأعلى من الكنيسة فرُم الدير والكنيسة عام 1955.

تحتفل الطوائف المختلفة بذكرى عماد المسيح حول دير يوحنا المعمدان. ويحيط الدير أديرة الأقباط والسريان، ومصلى للروس الأرثوذكس مسدس الشكل وكنيسة للإباء الفرنسيسكان.

2) المعالم الاثرية

ا) لكنيسة مار يوحنا المعمدان للروم الأرثوذكس

ببعد دخول الدير من البوابة في السور الغربي نصل الى ساحة داخلية التي تؤدي الى كنيسة مار يوحنا المبنيَّة على شكل اقواس اسطوانية , و للكنيسة حنية في جهة الشرق. ويبلغ عرض الكنيسة نحو 5 أمتار. وحنية الكنيسة تعود الى عام 1875 وهي أقدم منطقة في الكنيسة. وتحتوي الكنيسة عل كثير من الايقونات اليونانية والروسية. والعقود فوق الكنيسة تُبين بان كان فوقها عقود أخرى لكنها مهدَّمة تماماً ما عدا الجدار الواقع في الجنوب. وأسوار الدير الخارجية كلها مهدَّمة ما عدا من جهة الجنوب. وأما في الزاوية الجنوبية الغربية كان يوجد برج له غرف معقودة وفندق للحجاج.

في الأصل كان طول الدير يبلغ نحو 47م وعرضة30متراً. وفي الزاوية الجنوبية الشرقية والجنوبية الغربية برجان. وكان الفسيفساء يغطي جزءاً من أرضية البناء. وعثر على كتابة بالأرمنية وبعض الكتابات في العربية واليونانية. وكان يوجد امام البوابة تيجان أعمدة الكنيسة الأولى من العهد البيزنطي.

ب) كنيسة يوحنا المعمدان للفرنسيسكان

اقام الآباء الفرنسيسكان عام 1935 مزار مع فندق صغير للحجاج. ولكن في عام 1956 هدم الزال منى الأديرة على طول ضفاف نهر الاردن ومنها المزار. فاكتفى الإباء الفرنسيسكان في بناء مكان حنية المزار الأول مذبحا ثماني الشكل فوقه قبة ومحاط بألواح زجاجية. وبنى الفرنسيسكان عند ضفة النهر مذبحا عام 1933 ورمموه عام 1956 وأضافوا عليه مدرجا عام 1957 يسمونه العرب المغطس.

2) موقع عماد الرب في الأردن

التسمية:

وعرفت في الكتاب المقدس باسم "عينون"(يوحنا 3: 23) والمعروفة باسم " بَيتَ عَنْيا عِبْرَ الأُردُنّ "(يوحنا 1: 28). وأطلق على موقع حيث كان يعيش القديس يوحنا المعمدان في خارطة مأدبا من القرن السادس اسم "صفصافة". ومنذ القرن الثالث عشر والتقاليد المسيحية تربط منطقة بيت عبرة شرق نهر الأردن بيوحنا وتعميده للسيد المسيح

الموقع:

يروي إنجيل يوحنا ان موقع عماد يسوع على يد يوحنا المعمدان كان في الضفة الشرقية لنهر الاردن. "جَرى ذلك في بَيتَ عَنْيا عِبْرَ الأُردُنّ، حَيثُ كانَ يوحَنَّا يُعَمِّد"(يوحنا 1: 28). وتقع بيت عبرة عند مدخل وادي خرار على مساحة 1،5 كم إلى الشرق من نهر الأردن حيث تتوفر مياه غزيرة في تلك الناحية لتكفي الناس ومواشيهم.

وهذا الموقع هو نقطة التقاء الطريق الرومانية بالنهر. من هناك كانت تعبر القوافل الصاعدة إلى أورشليم، أو النازلة شرقاً والمتوجهة إلى ليفياس ومنها إلى حسبان حيث كانت تلتقي الطريق الرومانية الرئيسية التي شقها الإمبراطور تراجان في المقاطعة العربية ليربط طرق التجارة من البحر الأحمر إلى البحر الأسود، انطلاقاً من آيلة (العقبة) ومروراً بالبتراء والكرك وحسبان وعمان وجرش وبصرة الشام.

 

التاريخ:

وأشار المؤرخ ثيوذوسيوس عام 530 أن السيد المسيح كان قد تعمَّد إلى الشمال من البحر الميت قرب كنيسة القديس يوحنا مؤكداً أن السيد المسيح كان قد تعمَّد في الجانب الشرقي للنهر حيث أشار إلى تل الخرار والمعروف "بتل إيليا".

في العصر البيزنطي في أواخر القرن الخامس، أراد الإمبراطور انسطازيوس الأول (491-518) أن يخلَّد ذكرى عماد السيد المسيح في نهر الأردن وبني كنيسة عام 500 على ضفة النهر الشرقية فوق أقواس كي تبقى الكنيسة في مأمن من فيضانات النهر في موسم الشتاء وكان هناك درج يصل الكنيسة بماء النهر للحجاج. واهتم أيضاً الإمبراطور جستنيان (527-565) بهذه الكنيسة ورمَّمها. يذكر المؤرخ جون موش “أن بطريرك القدس كان قد بنىي كنيسة ودير في هذه المنطقة".

وكشفت الحفريات عن أنظمة مياه وبرك مغطاة أرضيها بالفسيفساء كانت تستخدم في التعميد. واكتشفت أيضا مجمعا يعود تاريخها إلى العصر البيزنطي المتأخر في القرنين الخامس والسادس يحتوي على دير وكنائس ومنشئات لمأوى الحجاج وتزويد هم بالمؤونة.

وحُظي المكان بزيارة كلّ من البابا بولس السادس عام 1964، وفي 21 آذار عام 2000 زار البابا القديس يوحنا بولس الثاني، وصلّى في مطلّ مار الياس.

ومنذ عام 2000 بدأت الكنائس الكاثوليكية تحيي يوم عماد الرب في المغطس كيوم حج مسيحي وطني.

وفي عام 2009 زار البابا بندكتس السادس عشر ثم تبعه البابا فرنسيس عام بزيارة المكان 2014، بالإضافة إلى العديد من رؤساء الكنائس حول العالم.

وفي عام 2017 إدرج المكان على لائحة التراث العالمي الإنساني العالمي من قبل اليونسكو.

وتحتفل الأردن هذا العام بمرور عشرين عامًا على بدء الحج إلى المغطس في العصر الحديث، وذلك بإضاءة ألفي شمعة صلاة بمشاركة كلّ الكنائس.

العالم الأثرية

أثبتت نتائج التنقيبات الأثرية عام 1996أنَّ برية اليهودية (يوحنا 3: 1) التي كان يوحنا المعمدان يقيم فيها ويُمهِّد الطريق فيها لقدوم السيد المسيح هي منطقة عنيا الواقعة إلى الشرق من نهر الأردن ضمن أراضي قرية الكفرين وتشتمل هذه المنطقة على أحد الأودية الصغيرة المسمى بوادي الخرار.

 

وأثبتت الحفريات الحالية في الأردن إن بيت عبرة (أو بين هبارا أو بيت بيتابلوا) كانت قائمة في هذه المنطقة. وأنها ضمت العديد من المنشآت المبنية ومُجمعات الرهبان والكنائس والكهوف بالإضافة إلى ينبوع مياه ونظام مائي. وأثبتت الحفريات أيضا أنه كان يمر بالمنطقة طريق مقدس قديم للحجاج يربط القدس ونهر الأردن وبيت عبرة وجبل نيبو.

 

1) كنيسة بيزنطية

على بُعد 100 متراً من النهر الاردن تقع أثار كنيسة بيزنطية بناها الامبراطور انستاسيوس عام 500، كما تمّ العثور على اثار لمزار إكرام للقديسة مريم المصرية.

2) برك

وعثر على ثلاث برك في تل الخرار، تقع البركة الأولى في المنحدر الغربي السفلي للتل، وهي تعود للعهد البيزنطي أي ما بين القرنين الثالث والرابع بعد الميلاد، أما البركتان الأخريان، فهما تقعان على قمة الطرف الشمالي لتل الخرار، والبركة الجنوبية مستطيلة الشكل ولها درج داخلي على الجهة الشرقية وأربع درجات تمتد على امتداد عرض البركة. ويستطيع الحجاج النزول إلى البركة من أجل أن يتعمدوا، هنالك بركتان مربعتان تعودان إلى نفس الفترة البيزنطية، وقد أضيفت الحجارة المربعة المنحوتة إلى الزاوية الجنوبية الغربية للبركة الشمالية الغربية من فترات لاحقة، وربما كانت تستعمل كدرج للنزول إلى البركة، ويصل الماء إلى البرك بواسطة أقنية مغطاة بالقناطر.

3) تل مار الياس

ويقع تل مار الياس على بعد كيلو متر يحي المكان الذي منه صعد مار الياس الى السماء إِذا مَركَبَةٌ نارِّيةٌ وخَيلٌ نارَّيةٌ قد فَصَلَت بَينَ أيليا واليشاع. وصَعِدَ إيليا في العاصِفَةِ نَحوَ السَّماء" (2 ملوك 2: 11).

بقلم الاب د. لويس حزبون 

كاهن رعية العذراء سيدة السلام-بير زيت