أنت هنا

 

عيد "إنتصاف الخمسين"

 

 

أولاً – مُقدّمة لا بدّ منها:

إن العيد الذي نحن بصدده اليوم، المُسمّى ب"إنتصاف الخمسين"، يقع في منتصَف زمن "البندكستاري" (كما يدلّ إسمه)، وكان في ما مضى عيداً مُهمّاً، يُعيَّد له في الطقس البيزنطيّ على مدى ثمانية أيام، من الأربعاء بعد "أحد المُخلّع" وحتى الأربعاء بعد "أحد السامريّة"، فتُدمَج أناشيد هذا العيد مع أناشيد "القيامة". وكان يُحتفل به في الكنائس الكُبرى، ولا سيّما في كنيسة "الحكمة الإلهيّة" (آيغيّا صوفيا)، والأديار والرعايا... أما اليوم، فقلّة هم من يعلمون بوجود هذا العيد، إذ فقدَ الكثير من شعبيّته السابقة، كونه يفتقد إلى أرضيّة تاريخيّة، بل يستند إلى فكرة لاهوتيّة مُهمّة، سنستعرضها في مقالتنا هذه، التي نهدف من خلالها للمنفعة العامة ولإعطاء دفع إضافيّ في مسيرتنا نحو "فيض الروح في العنصرة".

------------------------------------------------

ثانياً – سنكسار العيد:

ليس هناك من سنكسار بالمعنى المتعارَف عليه لعيد "إنتصاف الخمسين"، لأنه يستند إلى فكرة لاهوتيّة نستخلصها من إنجيل يوحنا (اللاهوتيّ بإمتياز). إذ نرى أنه بعد أن "أقام" (شفى) الربّ يسوع المُخلّع عند بِرْكة "بيت الرحمة"، حنق عليه الكتبة والفرّيسيّون بحجّة أنه خرق وصيّة "حفظ يوم السبت"، وصمّموا على التخلّص منه... فتوارى عن الأنظار، وذهب إلى الجليل، حيث تابع كرازته للجموع (غذّاها بالكلام "الخارج من فم الله") وأطعمها مُكثّراً الخبز والسمك (غذّاها بالطعام الأرضيّ). لكنه عاد إلى أورشليم عند إنتصاف "عيد المظال"، وصعد إلى الهيكل وأخذ يُعلّم. فتعجّب اليهود من كلامه، متسائلين "من أين له هذا العلم كلّه"، وهو لم يتعلّم أصلاً. لكنه بكّتهُم على عدم إيمانهم، وعلى نيّتهم بقتله، تحت حجّة إبرائه للمُخلّع في يوم السبت... ونقرأ في هذا اليوم الإنجيل بحسب يوحنا (7: 14-30).

-----------------------------------------------

ثالثاً – موقع العيد في الروزنامة الليترجيّة:

هناك مدّة خمسين يوماً تفصل ما بين عيد "قيامة الربّ يسوع من بين الأموات" (الفصح)، وبين عيد "حلول الروح القدس على التلاميذ" (العنصرة). ويُسمّى هذا الزمن الخمسينيّ ب"البندكستاري" في الطقس البيزنطيّ، وقد نشرنا مقالة مفصّلة عنه في "أسبوع التجديدات"... في منتصف "البندكستاري"، أي في اليوم الخامس والعشرين بعد "القيامة" والخامس والعشرين قبل "العنصرة"، أقامت الكنيسة المقدّسة "محطة لاهوتيّة" في الزمن الطقسيّ، ألا وهو عيد "إنتصاف الخمسين". إن هذا العيد يُمثل بالنسبة لزمن "البندكستاري"، ما يُمثله "أحد السجود للصليب الكريم" بالنسبة لزمن "التريوذي". ففيما الأحد الثالث من الصوم يُذكّرنا بضرورة حمل الصليب كل يوم وإتّباع المسيح، لكي نشهد قيامته المجيدة، كذلك "إنتصاف الخمسين" يدفعنا قدُماً في "ديناميكيّة" زمن القيامة، لكي نصل إلى عيد "العنصرة"، فنحصل على فيض الروح القدس، الذي وعد الربّ يسوع بإرساله، مُحرِّكاً فينا "الماء الحيّ" الذي نَبعُهُ هو المسيح نفسه، ومُعزّياً لنا وعاضداً في "إعلان البشارة للخلق أجمعين، وحتى أقاصي الأرض".

------------------------------------------------

رابعاً – الفكرة اللاهوتيّة للعيد:

إن الموضوع المركزيّ الذي يُرافقنا على مدى زمن "البندكستاري" هو "الماء". وذلك لأن "الماء" هو الفكرة المحوريّة لإنجيل يوحنا، الذي نقرأه بالكامل خلال زمن "البندكستاري"، والذي له أصداء في كتاب "أعمال الرسل" الذي نقرأه أيضاً في الفترة نفسها... ليترجيّاً، تبدأ هذه الفكرة بالظهور منذ أحد "القيامة" بالذات، حين نُنشِد قانون العيد الذي يدعونا قائلاً "هلمّوا نشرب شراباً جديداً غير مُستخرَج بمُعجزة من صخرة صمّاء (كما صخرة موسى)، بل من القبر المُفيض ينبوع الخلود، قبر المسيح الذي به نتشدّد"... كما أننا خلال القداس الإلهيّ للعيد، نُنشِد "الإيصوذيكون" (ترنيمة الدخول) التالي "في المجامع باركوا الله، الربّ من ينابيع شعبه..." (مز 67: 27).

إن أحد "القيامة" هو الأحد الأول من الزمن "الخمسينيّ"، وبعد إنقضاء الأسبوع الأول ("أسبوع التجديدات")، يأتي مباشرةً أحدان (هما "أحد تثبيت إيمان توما"، و"أحد حاملات الطيب")، فيهما يتقوّى إيماننا بقيامة المسيح ويزول كل شكّ، عبر إظهار "القائم من بين الأموات" نفسه للتلاميذ وللنسوة. بعدها، نبدأ بالإستعداد لقبول "الماء الحيّ" الذي يُعطيه السيّد له المجد. وذلك في الآحاد الثلاثة التالية (في طريقنا نحو "العنصرة")، وهي: أحد "مُخلّع بِرْكة بيت حسدا"، أحد "المرأة السامريّة عند بئر يعقوب"، وأحد "أعمى بِرْكة سلوام"... فخلال هذه الفترة، تتردّد على مسامعنا فكرة "الماء الحيّ" الذي "من يشرب منه، فإنه لن يعطش أبداً" (يو 4: 14). نتعلّم أن الربّ يسوع هو شخصيّاً نبع "الماء الحيّ"، الذي أخذناه ولبسناه في المعموديّة، كما "أنبع" الدم والماء اللذَين خرجا من جنبه المطعون على الصليب، "لغفران الخطايا وللحياة الأبديّة" (كما نقول عند المناولة)... وصولاً إلى "العنصرة" حيث تفيض علينا نعمة الروح الكلّيّ قدسه، ونسمع الربّ يقول لنا في إنجيل ذاك اليوم "إن عطش أحد، فليأتِ إليَّ ويشرب..." (يو 7: 37). ونختم "البندكستاري" بأحد جميع القديسين، حيث نحتفل بتذكار أولئك الذين شربوا من "مياه التقوى"، التي هي نتيجة فيض الروح القدس.

وبما أن ما تكلّم عنه الربّ في إنتصاف "عيد المظال"، هو مرتبط بآية إبرائه المُخلّع (التي أقمنا تذكارها في الأحد الفائت)، وبما أننا قد وصلنا إلى منتصف زمن "البندكستاري"، فقد إرتأت الكنيسة المُقدّسة إقامة عيد "إنتصاف الخمسين"، كصلة وصل بين قُطبَي "البندكستاري" (عيدَي "القيامة" و"العنصرة")، وبمثابة نهر متدفّق من النعمة على مدى الخمسين يوماً... فيظهران فيه كما لو أنهما "عيد واحد"، آخذين بركة العيدَين معاً. فإنه لا "عنصرة" من دون "قيامة"، "فالروح لم يكن قد أُعطيَ بعد، لأن يسوع لم يكن قد مُجّد بعد" (يو 7: 39). كما أنه لا معنى "للقيامة" من دون "عنصرة"، إذ "إنه خير لكم أن أنطلق (إلى الآب)، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعزّي، ولكن إن ذهبتُ أرسله لكم" (يو 16: 7). لذلك، يُقرأ في عيد "إنتصاف الخمسين"، المقطع الإنجيليّ بحسب يوحنا (7: 14-30)، المُتعلّق بكلام يسوع في "إنتصاف عيد المظال"... إن موضوع "الماء" هو مركزيّ في هذا العيد، لكن أيضاً هناك تركيز على المسيح "المُعلّم" و"حكمة الله" و"كلمة الله"، وهذه الفكرة تظهر بوضوح في أناجيل آحاد "المُخلّع"، و"السامريّة"، و"الأعمى"، وبشكل خاص في إنجيل عيد "إنتصاف الخمسين"، حيث يتعجّب السامعون من كلام الربّ "من أين له هذا كله، وهو لم يتعلّم؟" (يو 7: 15). وهذا يُعيدنا بالذاكرة إلى رواية بقاء الفتى يسوع في الهيكل، يُجادل علماء الناموس، وكان السامعون يتعجّبون من كلامه وأجوبته...

بإختصار كلّيّ، إن عيد "إنتصاف الخمسين" هو (1) إستعداد لنيل "الماء الحيّ"، وهو (2) إعتلان الربّ يسوع "مُعلّماً"، و"حكمة الله" و"كلمة الله".

--------------------------------------------------

طروباريّة العيد:

في إنتصافِ العيد إسقِ نفسي العطشى من مياه التقوى. لأنكَ، يا مُخلّص، هتفتَ بالجميع: إن عَطِشَ أحدٌ فليأتِ إليّ ويشرب. فيا أيها المسيح الإله، ينبوع الحياة، المجد لكَ.

قنداق العيد:

في إنتصاف العيد الناموسيّ، أيها المسيح الإله خالقُ الكلّ وسيّدهم، قلتَ للحاضرين: هلمّوا إستقوا ماء الخلود. فلذلك نسجد لكَ ونهتف بإيمان: هَبْ لنا رأفتكَ، فإنكَ أنت ينبوعُ حياتنا.

 

 

بقلم توفيق ناصر (خريستوفيلوس)