أنت هنا

تاريخ النشر: 
الجمعة, مايو 8, 2020 - 07:12

بقلم المطران سعد  حنا 

 

الآذان لا تكفي

لو كان المرء بأذنيه فحسب لاستقامت أمور الدنيا بيسر ورخاء. انما الإنسان بوجدانه، بعمق ذاته، بامتداد ابعاده التي لا حد لها، لذا كانت المشاكل والازمات وعدم الوضوح، كما ان عظمة الانسان تكمن في هذا، ويظل السرُّ سراً.

 

أن تقول لمن يبيع اللبن "لبنك حامض"! ولمن يحب الأصفر "ليس هذا اللون الجميل" ولمن يعتدي على الناس "انت المعتدي".. هذه وامثالها من تصريحات تزعج اصحابها، ولا يطيقون غريزيًا سماعها، فيثورون، وقد يتصرفون خطأ، مع أن لهم أذانًا، وربما واسعة، فينطبق عليهم القول المأثور: "لهم آذان ولا يسمعون"..

 

الآذان ضرورية للسماع. الله الخالق أعطانا لساناً واحداً للكلام والدفاع عن النفس والتعبير، بينما اعطانا أذنين للسماع. لكننا كثيرا ما نتكلم، وندافع، ونناقش، بل نجادل، ونتهجم، و... وقلَّ أن نُعير أذنينا للسماع، فنصغي، ونفكر، ونتأمل، لنستوعب، ونتفهم، ونتيح للوجدان ان يلتهب مستنيرًا، قبل اتخاذ الحكم والقرار، وقبل أن نتصرف وفق ما هو الأصوب والأجمل.

تزداد الحالات تعقيدًا في حياتنا الاجتماعية وعلاقاتنا البشرية، تشتد كلما توسعت الحلقة وتشعبت وتشابكت، فمجتمع المدينة غير مجتمع القرية، ونصطدم في خضم الحياة الاجتماعية بحالات من طرش متغافل وحالات طرش متعمد، والثانية أشد خطورة وجرمًا.

فهؤلاء يسمعون نداءات القريب، لكنهم لا يميلون الآذان لتمييز المقاطع والحقائق بوضوح، ربما بسبب الانشغالات الكثيرة، ولمواقف سلبية اتخذوها حالة اعتيادية، أو عن بخل، أو قساوة قلب. وتطرُق سمعهم تشكيات اشخاصٍ، بل شعوبٍ ودولٍ، لكنهم يصمون الآذان، لئلا يطرق صوت الحق أبوابها، والدافع الأكبر أنانيتهم السلطوية والنهمة، وينامون مرتاحي البال حتى على أصوات الانات والاحتجاجات والتذمرات لأنهم سابحون في بحر لا قرار له، يعلو على صوت أمواجه على كلّ الأصوات والصيحات.

 

فوجوب السماع، والسماع الجيد، ضرورة في الحياة. أني لواثق أن السبب الأكبر لاغفال الانصات وتعمد عدم سماع الآخرين وواقع الحياة، هو أن الكثيرين لم يُنشاوا على أعطاء السماع مكانته وقيمته.

 

ولن أبالغ في القول: لقد فقد معظمنا قوة سمعهم، فباتوا لا يميزون بين صوت وصوت، لضعف الأصوات التي تأتينا من كلّ مكان. فأجواء مشحونة بما يحمل على تخديرنا، بعد ان نشطت لأسباب محدودة عمليات غسل الدماغ. وصار الطرش انواع: كليّ حين لا تميز الأذن أي صوت، وجزئي في حالة عدم تمييز بعض الحروف، وطرش الشرود حين لا يكون مصغيا منتبها بل شارد الذهن مشتتا...

اننا بتنا لا نميز الاصوات، وربما لا نستسيغ أجملها. اذ مَنْ يسعد اليوم بتغريد بلبل، وخرير مياه، ورفة اشجار، وزفير رياح، وعذوبة صوت هادىء؟ .. من له الوقت لمثل هذه الهنيهات؟ وستقولون: انت خيالي، بل مثالي؛ إننا اليوم في معمعة حياة لا تتيح للمرء ان يركن لحظة واحدة، فأنى له الانصات... وهي هذه الطامة الكبرى.

لكننا لو اعتدنا على السماع الهادىء، المتأمل، المتعمق، لتمكنا من تميز الأصوات، ودون تميز الأصوات، لا يسعنا أن نشخص السلبيات من الايجابيات، وسنظل نسمع صخب الدنيا، وربما صوت انفسنا وحدها.. ومن لا يسمع الآخرين، لا سيما الذين لا طاقة لهم على رفع اصواتهم، واطلاق الصيحات من خلال وسائل الاعلام وجعجعة السلاح، وانزال الويلات بوسائل قمعية تكدس جرائم على مضالم، لن نتمكن حتما من الانصات الى صوت الأعماق التي وحدها تعيدنا الى ذاتنا وينابيعنا والله، علنا نكتشف الحقيقة.

وللوصول الى العتبات المقدسة هذه، لا تكفي الآذان وحدها.

 

المطران  سعد حنا