أنت هنا

تاريخ النشر: 
الثلاثاء, مايو 5, 2020 - 08:10

القائمة:

بطريركية بابل  للكلدان 

كنيسة اللُّغة أم لُّغات الكنيسة!

الكاردينال لويس روفائيل ساكو

ورد كلامٌ كثير في هذه الأيام على بعض مواقع التواصل الاجتماعي، عن عدم تمسك الكنيسة باللُّغة الكلدانيّة – السورث في طقوسِها، وانتقدوا بقسوة إستعمالنا اللُّغة العربية خصوصاً بسبب بث القداس عِبر فيس بوك البطريركية بسبب العزل الوقائي من تفشي جائحة كورونا، وتعليق الصلوات العامة في الكنائس.

الكنيسة الكلدانية تستعمل اللُّغة التي يحكيها ابناؤها أينما وِجدوا، فمثلاً في كل قرى سهل نينوى واقليم كوردستان وقرى إيران وتركيا نستعمل “الكلدانية – السورث” للقداس، ولكن هناك  كلدان يتكلمون فقط العربية في الموصل وبغداد وكركوك والبصرة وسوريا ولبنان، ومن حقهم أن يفهموا طقوسنا ويشتركوا فيها وإلاّ خسِرناهم. كذلك من حق مواطنينا العرب الذين يرغبون في الاطلاع على صلواتنا أن يُتابعوها بلغتهم! من هذا المنطلق وللمرة الأولى في تاريخ كنيستنا قمنا بطبع رُتب القداس المؤوَّنة بالسريانية والعربية والكلدانية – السورث والانكليزية، وسوف تُترجم لاحقاً الى الفرنسية والالمانية والسويدية والفلامكنية والى لُغات اخرى. اليوم لا يمكننا التصرف كما كنّا في السابق حيث كان 90% من الكلدان في العراق، والغالبية منهم يتكلمون السورث!

اننا نعتز بكلدانيتِنا وتراثِنا، لكننا أنا والأساقفة والكهنة مكرَّسون لحمل رسالة المسيح الجامعة الى كل أبناء الكنيسة، ليس في العراق فحسب، بل في كل مكان، ومساعدتهم على فهم إيمانهم وعيشِه، كل بحسب لغة بلادِه. هذه هي الدعوة التي دعانا الله اليها ونجتهد لتحقيقها.

تؤكد الكنيسة الكلدانية أن اللغة وسيلة، وليست الهدف، الهدف هو رسالة المسيح وهو أولويتها. اما موضوع اللغة والتراث فهو مسؤولية المجتمع المدني الكلداني. على العلمانيين الكلدان  وأخص بالذكر الاكاديميين والسياسيين والنشطاء المدنيين والقوميين (وليس القومجيين)، ان يخلقوا مؤسسات لغوية وتراثية وفولكلورية واجتماعية وقومية وسياسية واعلامية، ونوادٍ اجتماعية ورياضية ،  كما فعل الإخوة الآشوريون والارمن،  بتأسيسهم احزاباً ومحطات اذاعة وتلفزيون وفرق فولوكلورية! على الكلدان تحمُّل مسؤولياتهم وتقديم تضحيات، وليس القاء اللوم على الكنيسة!

التعصُّب والتحيُّز والجهل هي من أهم أسباب عدم تقدم أي مجتمع ومؤسسة. التعصب- التطرف يُحنِّط الإيمان في منظومة “الموروث” وتراكم “الادبيات القديمة”! نفتخر بتراثنا لانه درسٌ لنا، لكن التراث ليس تُحفاً في المتاحف. أملنا كبير بان يتخلص مؤمنونا من فايروس كورونا، ومن فايروسات تطرُّف العقل والروح، ويفكروا جديّاً في الاعداد لمستقبل أفضل.

تراث كنيسة المشرق بفرعيها “الكلداني والاشوري” لا يتوقف عند اللغة وحدها، انما تراثها أرض وفكر وثقافة وأدب (Literature) وخطٌ لاهوتيٌ وروحيٌ وقانونيٌ متميز، رسمته الكنيسة عبر تاريخها الطويل،  حتى يتمكن المسيح من الدخول الى قلوب مؤمنيها عِبر تجسده وقيامته. هذا  يجب ان نفهمه وان نحافظَ عليه في التأوين والترجمة لأن تراثنا جزءٌ أساسي من ثَراء الكنيسة الجامعة.

التقدم العلمي والثقافي والاجتماعي المتسارع، ووسائل التواصل الاجتماعي ونقاشات فلسفية ولاهوتية عميقة، هي واقع يجب ان نقبل به حتى على الصعيد الديني. التجديد ضرورة لانه  يبعث الأمل عند المؤمنين ويقوِّي تعلقهم بقيم الإيمان والحب والسلام والحياة والكرامة، وعلى المرجعيات الدينية ألاّ تتهرَّب من مسؤوليتها.

اللُّغة وسيلة

ولدت المسيحية في فلسطين وعبَّر عنها المسيح في اللغة العبرية وكذلك الرُسل الاوائل، قبل ان ينتقلوا الى خارج فلسطين للتبشير بها. وفي انطاكيا أطلقت تسمية “المسيحيين” لأول مرة على أتباع يسوع. وبعده  انتشروا في الشرق والغرب. في الشرق استعملوا في الغالب اللغة السريانية وفي الغرب اللغتين اليونانية واللاتينية. وبمرور الزمن ضمَّت الكنيسة في أحضانها شعوباً ولغات متنوعة، وتبنَّتها في تعليمها وطقوسها حتى تُجسِّد رسالة المسيح في وسط الشعوب المختلفة.

خلال سينودس 2010 من أجل الشرق، طلبنا أن يتبنى الكرسي الرسولي رسمياً اللغة العربية كإحدى اللغات الرسمية له، وحصل ذلك بالفعل.

 ومنذ مجيء المسلمين الى هذه المناطق واستحواذهم على الحكم، برزت الحاجة في كنيسة المشرق الى استعمال اللغة العربية. وقد استخدمتها أولاً مع القبائل المسيحية العربية  في إمارة الحيرة.  ثم تشكل رويداً رويداً في زمن العباسيين أدب مسيحي عربي ثري في مجال الطقوس والحوار اللاهوتي مع المسلمين والتاريخ والفقه والعلوم الاخرى. هذه طبيعة الكنيسة بتبليغ رسالتها للناس وفقاً لطلب المسيح: “اذهبوا الى العالم كله، واعلنوا البشارة الى الخلق أجمعين” (مرقس 16 / 15).  يقول القديس أغسطينوس: “The church must always be reformed “، أي أن تكون الكنيسة في تفكير مستمر وتأوين وبحث مستدام عن ايجاد لغة بسيطة ومفهومة في خطابها اللاهوتي والليتورجي والراعوي لمساعدة المؤمنين على فهم غنى إيمانهم وعيشِه بفرح وقوة، في تفاصيل حياتهم اليومية المعقدة.

 توجد لغة رسمية للكنيسة الكلدانية، ولكن لها لغات أخرى لكون رسالتها جامعة. هذا ما فهمه أبآؤنا في الإيمان.

لم تتشكل الطقوس دفعة واحدة، وانما برزت ملامحها ونصوصها شيئاً فشيئاً بمرور الزمن، واعطت الكنيسة الحرية لرجال الاكليروس ولغيرهم ان يُبدعوا فيها. وعُقِدت مجامع وتبنَّت الكنيسة فيها ما كان ملائماً لزمانها كما فعل مار ابَّا الكبير، وايشوعياب الثالث وطيمثاوس الاول والثاني، والى اليوم.

لقد تبنَّت كنائس عديدة دعوة المجمع الفاتيكاني الثاني، لتكون الكنيسة في اصلاح دائم لخيرها وخير مؤمنيها (الدستور العقائدي الكنيسة “نور الأمم” رقم: 8)، لكن تأخرت كنيستنا عن الركب.

يُحفِّز الاصلاح على الابداع وابتكار طُرق وأساليب جديدة تحافظ على الاصالة والثوابت وتكون في الوقت عينِهِ امينة للناس المعاصرين كي يكتشفوا الحضور الالهي في طقوسنا وصلواتنا والمشاركة فيها وتواصلها في شهادة حياتهم.

اني متيَقنٌ بأن هذا سيحصل، وبفعل الروح القدس الذي يقود الكنيسة بمواهبه المتنوعة، وثمة علامات عديدة لهذا الحضور. والشكر لله.