أنت هنا

تاريخ النشر: 
الأربعاء, يناير 29, 2020 - 00:00

القائمة:

الشاعرية الخفية للسيد المسيح في الأناجيل

الدكتور منير توما – كفرياسيف.

ليس غريبًا أن نعتبر السيد المسيح بأنه أعظم شاعر خفيّ غير منظور في العالم، فهو  مَثَل  أنبياء العهد القديم من الكتاب المقدس، فانه يتواصل اجتماعيًا من خلال شعر الحكمة – وذلك بأمثال حكمية سائرة قصيرة، بالمثل السردي الحكائي ذي المغزى الأخلاقي أو الروحي، ودائمًا بالمجاز أو الاستعارة سهلة التذكر التي لا تنسى. ونحن نسمع الصوت الغنائي وكلماته التي على شفاهنا، مع أنها استمرت معنا إلى ألفتين من السنوات، فإنه من المعقولية بمكان أن هذه الغنائية لم تسمع كشعر. وهنا نتساءل: ما الذي أعمانا أدبيا عن هذا الشعر الحكمي؟ في الانتقال من المصدر الآرامي للخطاب الى الترجمة اليونانية المكتوبة، ولاحقا الى ترجمات اللغات الأخرى، فإن الغنائيات قد اقفلت في نطاق الخطّية النثرية. إن هذا الانتقال في النوع الأدبي (genre) هو شيء غريب نظرا لأن السيد المسيح تكلم على نسق واحد بلغة الشعر كما فعل أنبياء العهد القديم. وفي الحقيقة، فإن الكتاب المقدس يبدأ بكلام الله في خلق العالم إلى الوجود بالسطر الشعري الصافي قائلاً: "ليكن نور"، فإذا استرجعنا القصيدة الشعرية في صوت السيد المسيح من خلال كلمات الأناجيل، يحضرنا قول السيد المسيح في إنجيل مرقس (37: 8،35)، فإنه من أراد أن يخلص نفسه يهلكها، وأما من أهلك نفسه من أجلي ومن أجل الانجيل فإنه يخلصها وماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه أم ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه؟

وفي انجيل متى، يضيف صاحب الانجيل تعقيده واستعارته. يشير النور إلى ويدل على كل أشياء العقل، الجسد، والأرض: انتم نور العالم، فالمدينة على مرتفع لا يمكن أن تخفى، والسراج إذا أوقد فليس ليوضع تحت المكيال بل على المسرجة، فيضيء لجميع الذين في البيت. هكذا فليضيء نوركم قدام الناس ليروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات (متى 16: 14، 5).

ولنتأمل شخص السيد المسيح ذي الأفكار الرؤيوية أو الخيالية بحديثه عن "طير السماء وزنابق الحقل"، وكذلك "عشب الحقل القائم والذي في غد يطرح في التنّور"، فكل ذلك عبارة عن صور فنية قوية تعبّر عن الوقتية في هذه الحياة القائمة وعن جمالية المعاني الفلسفية البسيطة البعيدة عن التعقيد والوعورة والتي تحمل في ثناياها رمزية سهلة قريبة لإفهام الناس: تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو، إنها لا تتعب ولا تغزل، وإني أقول لكم إن سليمان نفسه في أوج مجده لم يلبس كواحدة منها، فلئن كان عشب الحقل القائم اليوم والذي في غد يطرح في التنور، يلبسه الله هكذا، فكم أنتم بالأحرى، يا قليلي الايمان؟ (متى: 30 – 28، 6).

ونجد هناك الترتيل أو النشيد الفريد للكتاب المقدس: أبانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك، على الأرض كما في السماء، خبزنا كفافنا أعطنا اليوم، واترك لنا ما علينا كما تركنا نحن لمن لنا عليه ولا تدخلنا في التجربة: بل نجنا من الشرير، لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد. (متى 13: 9، 6) (السطران الأخيران هنا مرتكزان على صلاة داود في سفر الأخبار الأول).

وهناك عدد قليل من السطور المأخوذة من انجيل لوقا بشأن "العظة على الجبل" تحتوي على الشفقة والرحمة الإنسانية وإثارة المشاعر بنشوة وهزّة شهرية تكلم بها معلم الحكمة في "سفر الجامعة" من العهد القديم: طوبى لكم، أيها الفقراء، فان لكم ملكوت الله، طوبى لكم، أيّها الجياع، فإنكم ستشبعون، طوبى لكم، أيّها الباكون الآن، فإنكم ستضحكون. (لوقا 21: 20 ،6).

وفي انجيل يوحنا نسمع إعلانًا للتنوير الروحي في الولد الذي سيصبح الطريق إلى النور: إن النور باق بينكم زمنا يسيراً، فسيروا ما دام لكم النور، لئلا يغشاكم الظلام، لأن الذي يمشي في الظلام لا يدري أين يذهب. فما دام لكم النور فآمنوا بالنور لتكونوا أبناء نور. (يوحنا 36: 35، 12).

ومن خلال الكلام الأكثر وضوحًا وبساطة يدل وينبئ يوحنا عن يأس روحي، مناشدة، وتأكيد هاديء للمهمة: الآن نفسي قد اضطربت، فماذا أقول؟ نجني، يا أبت، من هذه الساعة!

ولكن من أجل هذه الساعة بالذات قد جئت، فيا أبت، مجد اسمك. (يوحنا 28: 27، 12).

ان يسوع هو أحد الشعراء البارزين بين شعراء العهد الجديد من الكتاب المقدس، فلدينا أصحاب رسائل العهد الجديد يعقوب ويوحنا اللذين تعتبر قصائدهما الرسائلية ثورية بالرحمة أو الشفقة العميقة للمستضعفين والمسحوقين، وبالازدراء للأثرياء والأقوياء. والكتاب الأخير في العهد الجديد منسوب إلى يوحنا من باتموس، الذي كتب سفر الرؤيا في كهف بجزيرة باتموس اليونانية، معتبرين سفر الرؤيا هذا بمثابة قصيدة ملحمية للكتاب المقدس. إن سفر الرؤيا يستعمل استعارة أو مجاز لبابل المستبدة أو ذات الطغيان لإخفاء هجوم ملهب ومثير للفتن على الامبراطورية الرومانية القامعة والمضطهدة، وامبراطورها أغسطس قيصر، ويعرف هذا السفر أيضًا بالاسم اليوناني الأصلي "Apocalypse (أبوكليبس)"، الذي يتضمن تلك الأخيلة والصور الفنية الشعرية الهائجة العاصفة التي سبقت في زمنها اللحظات الشديدة للملك لير قصير النظر بجهله وهو يقف على الجبل غاضبًا ثائراً في داخل الفضاء الكوني (في مسرحية شكسبير الشهيرة):

ورأيت (الحمل) يفتح الختم السادس، وإذا زلزال عظيم قد حدث، والشمس قد اسودّت كمسح الشعر، والقمر كله صار مثل الدم، وتساقطت كواكب السماء على الأرض كما تسقط التينة أثمارها الفجة، اذا ما هزتها ريح عاصف، واندرجت السماء كما يطوي السفر.. (الرؤيا 6).

ان القديس بولس هو الرسول الطلائعي للمسيحية، وهو أيضاً فيلسوف فصيح ذو رؤى فكرية معقدة وبلاغة كاملة لا عيب فيها، بالإضافة إلى التوهج الشعري. إن مهارته المنطقية تذكرنا بالفلاسفة اليونان ما قبل سقراط، الذين كتبوا وألفوا تأملاتهم بشأن الوجود شعراً. ولنتأمل الشعر المتسامي الإنساني للقديس بولس في مطارحته حول الحب في رسالة كورنتوس الأولى: لو كنت أنطق بألسنة الناس والملائكة، ولم تكن في المحبة، فإنما أنا نحاس يطن، أو صنج يرن، ولو كانت لي النبوة، وكنت أعلم جميع الأسرار والعلم كله، ولو كان لي الإيمان كله حتى لأنقل الجبال، ولم تكن في المحبة، فلست بشيء. ولو بذلت جميع أموالي (إحساناً)، ولو أسلمت جسدي لأحرق، ولم تكن في المحبة، فلا أنتفع شيئًا. لما كنت طفلا، كنت أنطق كطفل وأعقل كطفل، وأفكر كطفل، فلما صرت رجلاً أبطلت ما هو للطفل. الآن ننظر في مرآة، في ابهام. أما حينئذ فسأعلم كما علمت. الآن يثبت الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة، لكن أعظمهن المحبة. (الرسالة الأولى إلى كورنثوس 13).

إن متى، كطرازه مرقس، هو راو أو قاص رفيع المستوى. المنظر أو المشهد هنا قرية في يهوذا. عبقريته السردية القصصية تتجسد وتتحقق في أقل ما يمكن من شعرية يسوع النظامية المحددة، وذلك تمهيداً وتحضيراً لدخوله النهائي إلى أورشليم. اللحظة مفعمة بالتوتر والخطورة.. وكما في الشعر الجيد، ليس هناك زغب أو نفش. وكل كلمة تؤخذ في الحسبان.

يقول يسوع، باقتضاب، في قطعة بعنوان: "دخول أورشليم على جحش": دونكما القرية التي أمامكما، وللوقت تجدان أتانا مربوطة وجحشًا معها. فحلاهما وأتياني بهما، فإن قال لكما أحد شيئًا فقولا: الرب محتاج إليهما ويردهما في غير بطء. (متى 3 – 2، 21).

وبعد ذلك، فإن الصوت يتغير حينما يخاطب أورشليم، قائلاً لها بأن ملكك قادم. وبمفارقة ممتعة ونابضة بالحياة، يتحرك بمصاحبة حاشيته الملكية وأتباعه، التي تشمله، وحمار وجحش. وبعد أن يقدم إشارات آنية ولاحقة فظيعة للخلاص، يكشف بأنه هو، ملكهم للمستقبل، على وشك أن يركب جحشًا بكل تواضع نحو مصيره كسجين سيموت عما قريب.

ولكن لهذه اللحظة، فإن دور المسيح يتسم بالعناد والاندفاع. وتكراراً وتحقيقًا لكلمات النبي زكريا النبوئية، فإنه في الطريق. وقد وضعت العباءات على الحمار والجحش، وجمهور عظيم من الذين نشروا عباءاتهم والأغصان على الطريق – سوف يسيرون أمامه وخلفه، صائحين بينما هو راكب على الجحش: قولوا لإبنة صهيون: هوذا ملكك يأتي إليك، متواضعًا، راكبًا على جحش، جحش ابن اثان. (متى 5: 21).

إن هذه القطعة التي قالها يسوع تنوه إلى وتقتبس النبي زكريا من العهد القديم: ابتهجي جداً يا بنت صهيون واهتفي يا بنت أورشليم هوذا ملكك آتياً إليك بارا مخلصًا وضيعًا راكبًا على حمار وعلى جحش ابن آثان (زكريا 9:9).

ومما تقدم يتضح أن يسوع في العهد الجديد من الكتاب المقدس هو الشاعر الذي لا يوازي، فأقواله، قصصه وأمثاله بسيطة وسهلة الفهم، ومركبة وواضحة كالأجواء المفتوحة. ومن هنا كونية وشمولية كل قصيدة وجدانية غنائية أو عبارة سردية يقولها. إنه يتكلم شعرا حكيمًا، فالسطور مشبعة بالنظرة البهيجة أو الحزينة، وبالتالي فإن كلا من مزامير داود وشعرية يسوع تشكل كوكبة الكتاب المقدس شعريًا. وهكذا فإن القصائد من أناجيل مرقس، متى، لوقا ويوحنا تندمج داخل دراما شعرية مجردة غير عادية لتؤلف إنجيل يسوع بشاعريته وحكمته الفريدتين.