أنت هنا

تاريخ النشر: 
الاثنين, يناير 27, 2020 - 00:00

القائمة:

الانجيل وسوء التوصيل

المطران سعد سيروب حنا – العراق

الزائر الرسولي للكلدان الكاثوليك في اوروبا

 

تُعد "الموعظة" "العظة"، في الليتورجيا والصلاة الجماعية، إحدى أهم الوسائل للتواصل مع الجماعة المسيحية. وقدّ احتلت هذه الأداة مكانة مركزية في التقليد المسيحي عبر القرون المختلفة. وللأسف، يُحكم اليوم على الموعظة بعدم فعاليتها وبانها تبعث الضجر وعاجزة عن إيصال الرسالة ولمس قلب المؤمنين في الكنيسة.

 

وقبل كل شيء نريد أن نسأل: ما هي الموعظة في الليتورجيا؟ ما الذي تمثله هذه الأداة التفسيرية المهمة في الكرازة المسيحية؟

 

العظة هي أداة تُساعدنا في تحويل قراءات الكتاب المقدس الى كلمة الله في قلب المؤمن. واسمحوا ليّ أن أقول أن نصوص الكتاب المقدس (القراءات المنتقاة من قبل الليتورجيا الكنسية) ليست كلمة الله بحرفها، بل الكتاب المقدس هو حامل لها، وحاضن لها! فالكتاب المقدس كلّه يحتاج الى يدّ خارجية لتفتحه، وإلى عين تقرأه، والى صوت يُعلنه ويشرحه لتصير الكلمة المقروءة كلمة الله "الموجّهة".. كالقائم من الموت!

 

ولهذا السبب تصير "العظةُ" عظةً عندما تكون موجّهة الى مستمع.. فإعلان كلمة الله لا يعني مطلقاً قراءتها بصوت مسموع! إنها كلمة موجّهة نحو شخص آخر وقادرة على التواصل معه. ودعوني أقول أيضاً إن الكتاب المقدس لا يملك القدرة بذاته وبحرفه على التغلغل الى أعماق النفوس، بدون التفسير والوعظ! فهو لا يحوي كلمة الله بشكل مباشر وحرفي، بل يحتويها ويتضمنها ويحتاج الى من يستخرج هذه الكلمة منه.

 

ليس الوعظ المسيحي إذن مجرد تفسير علمي للنصوص الكتابية، أو وعظ أخلاقي حماسي، ولا يمكن أن يكون منبراً لتمرير أفكار شخصية يحملها قائد هذه الكنيسة أو تلك. الموعظة المسيحي هي كلمة مُلقاة برصانة لتبعث الى الوجود كلمة الله الحاضرة في ثنايا وصفاحات وأحرف النص المقدّس. ومن هنا فان الموعظة هي كاشفة بطبيعتها، وموجّهة شخصيا لتصير حقيقة فاعلة وعاملة في القلوب.

 

ويجب أن أقول أيضا أن في كلّ موعظة توجد عدّة أصوات أخرى تحاول أن تطغي على صوت كلمة الله، إلا أن الصوت الإلهي يجب أن يكون قادرا على أن يكشف كلمة الله في نفس المؤمن. وكما حدث في أيام نحميا حين كان يقرأ كتاب الشريعة ويترجمها ويفسر معناها، فتصير كلمةٌ تبعث الفرح العظيم، الذي اختبره الشعب كله لأنهم فهموا كلام الله (نحميا 8: 12).

 

ان أقول أن شكاوى عدة نسمعها عن المواعظ التي تلقى على مذابح كنيستنا، وأن الناس تفتقد الى كلمة الله وفهمها. الموعظة هي فن صعب! وأحيانا يؤثر في الصميم في إيصال بُشرى الانجيل السارة الى الناس. واعتقد ان السبب لا يأتي وقت الموعظة نفسها، بل في التحضير والإعداد لها شخصياً وروحياً. فلا يمكن أن ندّعي إننا قادرون على أن نوصل كلمة الله الى الآخرين إذا لم نكن نحن أنفسنا قادرين أن نصغي لها، ونتأمل فيها!

 

يمكننا أن نروّج لبضاعة لا نستعملها شخصياً فتُباع، ولكننا لا يمكن أن نعمل هذا مع كلمة الله، لأن كلماتنا ستكون عقيمة وغير فعالة. وللأسف، واقولها بمرارة، يوجد العديد من الواعظين اليوم الذين يبدأون القداس وهم لم يقرأوا القراءات شخصياً ولا يعرفون الانجيل الخاص باليوم. وآخرون يستنسخون نماذج جاهزة، فيأخذهم الكسل وينال من روحهم.

 

ويجب ألا ننسى أن إعلان كلمة الله هو كزرع بذار الكلمة في النفوس، ويقابلها عمل شيطاني يحاول تقويضها بزرع الزؤوان في نفس الأرض (متى 13). ولا يمكن التخلص من هذا الزؤوان إلا بالصلاة التي ترافق الموعظة.

 

إن الوعظ والموعظة تحتاج إلى الايمان والثقة بكلمة الله. أن نؤمن أن الكلمة تُصبح صمتاً، وتصرخ في صمت الصليب.. فكلمة الله في هذا العالم، يمكن أن تكون مقاومَة ومعارضَة ومضطهدَة كما يقول بولس الرسول (2 طيم 2: 9)، ولكنها يمكن أن تصرخ في صمت الصليب. يمكن ألا يصغي إليها الانسان، ولكن لا يمكن أن يقهرها.

 

وأختم كلمتي بالقول أن الوعظ هو الذي يبني الجماعة المصغية والموعظة هي الأساس الراسخ في قيام الجماعة المسيحية الواعية والمؤمنة.

 

وسوم: