أنت هنا

تاريخ النشر: 
الأربعاء, فبراير 12, 2020 - 13:29

لن أدعك تموت!

بقلم   الاب نضال قنزوعة كاهن رعية مار  يوحنا الحبيب  -  يافة الناصرة

في 14 شباط من كل عام يُطلّ علينا عيد "الفالنتاين"، نسبَة إلى القديس فالانتينوس الذي قَضى شهيداً للحُبّ الأصيل النَّظيف النقي الخالي من عيوب الشهوة والإنحراف.

مَن يعرف القديس فالانتينوس، وقصّة حياته وبذل ذاته، يُدرك إدراكاً جيّداً بأنّه بريء من عيده هذا الذي يُسَوّقه السّوق؛ فما يُقدَّم لنا في هذا العيد باسم الحُبّ ليسَ حُبّاً، بل جِنساً وشتّان ما بينهما! فما هو الحُبّ؟.

لنفهم المعنى الأصيل للحُبّ، علينا أن نرجع إلى أصل الكلمة. وهي في الأصل اللاتيني، كلمة تتألّف من جزئيين وتعني "لا للموت". عندما يقول الواحد للآخر "أنا أُحبّكَ"، يعني أنه يقول له "لَن أدعك تموت!".

"لن أدَعَك تموت"، تفترض أنّ شخصاً آخر سيفعل، أي سيموت. سيأخُذ مكان الآخر الذي يُحبُّه ويفتديه. بهذه المحبّة خاطبنا الله بإبنه ​يسوع المسيح​، الذي كانت حياته من أوّلها إلى آخرها حُبّاً، وقد بَرَز هذا الحُبّ بشكلٍ جليّ على الصليب؛ فعلى الصليب حقّق يسوع بالفعل ما علّمه وعاشه، فمات كي لا نموت، ومعنى ذلِك أنّه مات كي يكون سبب حياة لنا وللبّشرية جمعاء.

"الله محبّة"(1يو4: 8)، هذه هي صورته التي أطلّ بها على البشرية. وهذه المحبّة هي التي أوجدت الخلق كلّه، والإنسان على صورتها ومثالها (تك1: 27)، وهي التي غرست في كيان الإنسان الدّعوة إلى الحُبّ.

الإنسانُ يكون على صورة الله ويصيرُ إنساناً حقّاً بقدر ما يتجاوب مع هذه الدّعوة، فيُحبُّ بالمحبّة نفسها التي أحبّه بها الله الخالق، ويستقي منها ليُحسِن الحُبّ؛ حبّ الله وذاته والآخر، ويبتعد عن الشهوة والأنانيّة والانغلاق. وهكذا يُضحي الحبّ فِعلَ حضورٍ دائِمٍ وتَكَرُّساً للآخر واهتِماماً بِه.

هذا هو الحُبّ، وكلُّ شيء آخرَ لا يُشبِهُه لا يُدعى حُبّاً بل جِنساً أو أيّ شيء آخر. فالحُبُّ الحقيقيّ مُختَلِفٌ بطبيعَتِهِ وصورته عَمّا يُعرَضُ كسِلعَة للمُستهلكين، سُرعان ما تذبُل وتُرمى في سلّة ​النفايات​ ليَجري البحث من جديد عن "حُبِّ" آخر مُسَلَّع. وهذا الحُبّ، إن جاز التعبير، قَد نَسِيَ أَصلَهُ وجُذورهُ الإلهيّة، وحصر نفسه في "الإيروس" (الرغبة الجنسيّة)، كقوّة تفرِضُ نفسها على العلاقات البشريّة وتتحكّم بِها، لدرَجة أنّه ألغى المعنى الإنساني لهذه العلاقات وتعامل مع الشخص كوسيلة إثارة وحسب.

وما بين حُبٍّ وحُبّ، أو بالأحرى، ما بين نَموذجين من الحُبّ، تكمن المُشكِلة. "حُبٌّ" ينهَلُ من الإيروس ويقتَصِر على اللذّة الجنسيّة مع ما يُرافقها من أكسسوارات تُحاول أن تزيد منها وتجعلها أكثر قوّةً. وحُبٌّ آخر لا يستقصي الإيروس، ولكنّه يؤَدّب الإيروس بالمحبة ويؤطّره في إطار الحُبّ الزّوجي الأصيل الذي يمنع التلاعب به أو انحلاله.

هذا الحُبّ الأصيل يقوم على هِبة الذّات المتَبَادلة والمجّانيّة والكاملة، فالحُبّ يَصيرُ حُباً، ويبلغ كامل تألّقه في الأمانة التي تجمع شخصين تعاهدا على الحُبّ و​الحياة​ المُشتركة.

في العالَمِ، الكثيرُ الكثير مِن الجنس، والقليلُ القَليلُ مِن الحُب، وَما نَحنُ بِحاجَةٍ ماسَّةٍ إليهِ هو الكثيرُ الكَثيرُ مِنَ الحُبِّ الأَصيل، إذ عِندها يُصبِحُ الجِنسُ نتيجةً حتميّةً لِحُبّ صادِق يُغّذيه ويُنمّيه، وكلّ ما هو دون ذلِك وَهمٌ، لَن يَصِل بالبشرية إلى أبعد من حدود الجسد، الذي ترتفع قيمته وتتدنى بحسب مقياس الجمال و​الشباب​ والعمر.