أنت هنا

تاريخ النشر: 
الخميس, مايو 12, 2022 - 11:13

التقى قداسة البابا فرنسيس مع الكاردينال أنجلو بيتشو، عميد مجمع دعاوى القديسين، في الفاتيكان في 29 أيار 2020، حيث وافق على عدد من المراسيم الصادرة عن المجمع والتي تتعلق بقداسة ستة طوباويين من بينهم الطوباوي شارل دي فوكو، الذي نسبت له أعجوبتان، الأمر الذي جعل إعلان قداسته قريبًا، وهو يُعتبر أحد أهم روّاد الحوار بين الأديان. وكان قد تقرر إعلان قداسته في أيار الماضي، إلا أنّه لم يتم تحديد موعد للاحتفال بسبب الحالة الصحيّة الطارئة الناتجة عن جائحة كوفيد-19.
ولذا سيحتفل بإعلان قداسة الطوباوي في 15 أيار 2022 في حاضرة الفاتيكان في روما، في قداس يترأسه قداسة البابا فرنسيس، ويحضره عدد من الكرادلة ومجمع دعاوى القديسين، والأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات وآلاف المؤمنين الذين يحتشدون في ساحة القديس بطرس في الفاتيكان.
ومن بين الحضور سيادة المطران يوسف متى السامي الاحترام، إذ أن الطوباوي دي فوكو عاش في الناصرة، وأقام كراهب في دير الكلاريس ما بين 1897 وحتى 1900، وسيكون حضور سيادة المطران متى بارزا في هذا القداس. كما سيشارك وفد من الناصرة إلى جانب الوفود القادمة من عدة دول أخرى.
من هو الطوباوي شارل دي فوكو
وُلد شارل دي فوكو في ستراسبورغ في فرنسا في 15 أيلول 1858 لعائلة أرستقراطية، والتحق بالمدرسة العسكرية عند بلوغه سن 18، قبل انضمامه إلى مدرسة الفرسان في سومور في عام 1878. كان ضابطا تابعا للجيش الفرنسي في شمال إفريقيا، حيث كان المكان الأول الذي نمّى فيه مشاعره عن الصحراء والعزلة. وزار الطوباوي المغرب ومكث فيه مدة عام والتقى بالعديد من المؤمنين، الأمر الذي دعاه لاكتشاف وجود الله في حياة الناس. لدى عودته من المغرب، التقى كاهنًا يُدعى الأب أوفلن في كنيسة القديس أوغسطين في باريس عام 1886 وهناك تغيرت حياته كليًا وقرر ترك كل شيء من أجل الله. وسيم كاهنا في 1901 وسافر إلى الجزائر ليمضي حياة النسك والزهد.
حياة الطوباوي دي فوكو
عاش شارل دي فوكو شبابه بطيش كبير، فكانت مغريات الحياة وملذاتها تستهويه في ذلك الوقت. وهكذا أخذ يبتعد عن الله شيئا فشيئا، ولكنه كان في الوقت عينه، يشعر في أعماقه بفراغ مؤلم وحزن عميق.
التقى المسلمين في صحراء الجزائر، فتأثر بطريقة صلاتهم وسجودهم.. أحدث إيمانهم بالله هزّة له، خلقت عنده التساؤل حول إيمانه هو!
وبعد ما رجع إلى فرنسا، قصد كاهن الرعية لكي يتعرّف أكثر على المسيحيّة، كان هذا اللقاء بمثابة اهتداء لشارل، فغيّر له حياته كلّها. ومنذ أن آمن بوجود الله فهم أنه لا يستطيع أن يعيش لغيره. إن دعوته الرهبانيّة يعود تاريخها لساعة اهتدائه.
صار يبحث مع مرشده كيف يعطي حياته كلها لله، فالتحق بالرهبنة السكوتيّة في دير فقير للغاية في منطقة "أقبس" شمال سوريّة هناك التقى بمسيحيّين من هذه البلاد، تحمّلوا الكثير من العذابات والاضطهادات بسبب إيمانهم.
من خلال علاقاته بالعائلات المسيحيّة المجاورة للدير لمس أوضاعهم الفقيرة والصعبة، فأراد أن تكون حياته الرهبانيّة أقرب إليهم كما كانت حياة يسوع مع ذويه في الناصرة.
ففي الناصرة جَذَبته حياة يسوع البسيطة والمتواضعة، التي يتجلى فيها سرّ الله وسرّ حبّه لكل إنسان، فأحبّ أن تكون هذه الطريقة نهجاً لحياته. وكان يعتكف في المصلى تسع ساعات يوميا، يقضيها بالصلاة والتأمل أمام القربان المقدّس. ويحمل الطوباوي دي فوكو رسائل روحية وفكرية في نظرته إلى الحياة والإنسان فقد اتسمت هذه الصلوات التي تدعو إلى تسليم الذات، والتأملات بحيث يستودع فيها المرء روحه بين يدي الخالق، ويهبها ليسوع.
وهكذا عاش شارل حياة تجمع بين الصلاة والاتحاد مع الله، ومشاركة الناس، لاسيمّا الفقراء والمهمشين، وأراد أن يختبر جزءً من حياة السيد المسيح المتواضعة، فأخذ حياة البساطة والزهد نهجاً له، وكان مثالاً يحتذى به في الفقر والصمت والعمل، حيث أمضى وقته في دير الكلاريس في الناصرة وقام بالتناوب بين العمل اليدوي وساعات طويلة من العبادة والتأمل.
وبمساعدة مرشده قرّر أن يرجع ليعيش في صحراء الجزائر بين القبائل المهمّشة والفقيرة، فكان كواحد منهم. وكانت الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي. فعاش حياة نسكية فعلية. أقام أولا في بلدة بني عباس بالقرب من الحدود المغربية، حيث بنى صومعة صغيرة للتعبد والضيافة، التي أصبحت لاحقا "الأخوية".
فيما بعد انتقل للعيش مع قبيلة الطوارق في تمنغست في جنوب الجزائر. وهذه المنطقة تعدّ مركزية في الصحراء، حيث توجد هناك جبال أهقار. اعتاد شارل أن يرتاد أعلى نقطة في الجبل في منطقة أسكرام كمكان للاعتكاف. عاش بالقرب من الطوارق وشاركهم متاعبهم. وبنوا له حصنا ليقيم فيه. وقضى عشر سنوات يدرس لغة الطوارق وتقاليدهم وثقافتهم. وتعلم اللغة الطارقية وشرع في تأليف قاموس للمفردات وقواعد اللغة. مخطوطة قاموسه نشرت بعد وفاته في أربع مجلدات، وصار القاموس معروفا من بين القواميس الأمازيغية الأخرى، بسبب غناه وما يحتويه من أوصاف دقيقة. أعدّ شارل فكرة تأسيس معهد ديني، والذي أصبح حقيقة فقط بعد وفاته، تحت اسم «أخوة يسوع الصغار».
تعرض شارل دي فوكو إلى هجوم عصابة قطاع طرق في حصنه في الأول من ديسمبر 1916 في تمنغست، وأخرج منه بالقوة، وكانت العصابة مسلحة وفي نيتهم اختطاف شارل دي فوكو، لكن عندما علم الحراس بأمرهم، سارع أحد أفراد العصابة إلى إطلاق النار على رأس شارل فأرداه قتيلا. استمرت السلطات الفرنسية تبحث عن قطاع الطرق أولئك طيلة سنوات، حتى قبض على زعيمهم في ليبيا وأعدم هناك.
أثناء جنازته في فرنسا أبّنه البابا بندكتس السادس عشر في13.12.2005 واعتبر شهيدا في شعائر الكنيسة الكاثوليكية.
إعلانه طوباويا
بشّر دي فوكو بالأخوّة الشاملة. وهو فرنسيّ عاش مع العرب، مسيحيّ عاش مع المسلمين، غنيّ عاش مع الفقراء، فكسر كل الحواجز. وكان يقول إن حبة الحنطة التي تقع في الأرض تبقى وحدها، ولكن إذا ماتت أخرجت ثمرًا كثيرًا. نمت حبة الحنطة وأعطت ثمارًا وفيرة. فبعد موت الأخ شارل بفترة قصيرة ظهرت جماعات روحيّة تشبّعت من روحانيّته، ومشت على خطاه. مثل راهبات يسوع الصغيرات.
وأعلنه البابا بندكتس السادس عشر في 13.11.2005 طوباويّاً في الكنيسة.
رسالة الطوباوي شارل دي فوكو
يُريدنا شارل دي فوكو أن نرجع إلى بساطة الإنجيل، ونتأمل في حضور يسوع في الكلمة والإفخارستيا "سر القربان المقدس" وفي كل شخص نقابله وخاصة الصغار والأكثر ضعفًا في العالم. قيمة التأمل في حياة الإنسان لها مدلولات عديدة، التأمل الذي يُعطينا فرصة للحوار مع الله، مع أنفسنا، مع ضمائرنا. التأمل الذي يُعمّق فينا جذور الإصغاء. ننظر إلى كل أخ وأخت داخل الأخوّة، ننظر كأننا نرى شارل دي فوكو الذي يحيا الآن داخل ديره البسيط، ويرى هذا العالم من خلال منظوره الأخوي العميق. نتأمل في هذه الحياة البسيطة التي جمعت فيها قيمة الإنسان مع الله.
صلاة تسليم الذات وضعها الطوباوي دي فوكو
أبتِ... إني أسلم لك ذاتي، فأفعل بي ما تشاء،
ومهما فعلت بي فأنا شاكر لك.
إنّي مستعدُ لكل شيء، وأرتضي بكل شيء.
ليس لي رغبة ً أخرى يا إلهي،
سوى أن تكمُل إرادتُك فيّ وفي جميع خلائقك.
أني أستودع روحي بين يديك،
وأهبها لك يا إلهي، بكل ما في قلبي من الحب،
لأني أحبك، ولأن الحب يتطلب مني أن أهب نفسي،
أن أودعها بين يديك، من دون مقياس،
وبثقة لا حدّ لها،
لأنك أبي.