أنت هنا

 

الأحد 14 حزيران 2020

الأحد الثاني بعد "العنصرة" – أحد "دعوة الرسل الأوائل"

 

نقرأ فيه الإنجيل بحسب متى (متى 4: 18-23)، وفيه يبدأ الربّ يسوع بإتخاذ تلاميذ له، بهدف تهيئتهم ليُصبحوا شهوداً للتدبير الخلاصيّ الذي جاء يُتمّمه، ويكرزوا بمحبّة الله ورحمته لبني البشر.

مُلخّص عبرة إنجيل اليوم:

* دعوة التلاميذ هي صورة لدعوة كلّ منّا لإتباع يسوع.
* الدعوة لإتباع يسوع توجب التخلّي عن الكثير في سبيل ملكوت الله.
* هناك إختلاف في الدعوات حسب مواهب كلّ منّا، وحسب مقاصد الله.

***********************************************

أولاً – مُقدّمة لإنجيل اليوم:

يُختتَم الزمن "الخمسينيّ" تقليديّاً مع "أحد جميع القديسين"، لكن الكنيسة الروميّة الملكيّة الكاثوليكيّة مدّدته بإضافة زُهاء أسبوعَين، لإدراجها "عيد الجسد الإلهيّ" في روزنامتها الطقسيّة... مع ذلك، دخلنا فعليّاً في زمن "العنصرة" ومفاعيلها، زمن إنطلاق رسالة الكنيسة تحت هدي الروح القدس. بناءً عليه، تسير الكنيسة في رسالتها بالتوازي مع رسالة الربّ يسوع، وتقرأ في هذا الزمن الإنجيل بحسب متى البشير، وقد باشرت بقراءته منذ الأحد الفائت (الأول بعد "العنصرة"). وللتذكير، فإن إنجيل متى يمتاز بكونه الأكبر حجماً، كما بكونه إنجيل "ملكوت الله" بإمتياز، لتناوله هذا الموضوع أكثر من سواه من الإنجيليّين، ولكون "الملكوت" يُشكّل جوهر أو خُلاصة كرازة الربّ يسوع.

في هذا الأحد، وهو الثاني بعد "العنصرة"، تقرأ الكنيسة على مسامعنا إنجيل "دعوة يسوع للرسل الأوائل"، وفيه نرى دعوة لكل منّا لإتباع يسوع. خصوصاً أن هذا الأحد هو التالي "لأحد جميع القديسين"، فالدعوة الأساسيّة هي للقداسة "على مثال القدّوس الذي دعانا" (1تس 2: 12).

ويأتي هذا النصّ الإنجيليّ مباشرةً بعد حادثة إعتقال يوحنا المعمدان وبالتالي إنتهاء رسالته التي كان جوهرها، إعداد الطريق "للذي يأتي بعده"... وللحال، ترك يسوع مدينته (الناصرة) وسكن في كفرناحوم، التي سوف تُعرَف منذ اليوم بمدينته، والتي تقع على ضفاف "بحر الجليل" (بحيرة طبريّا)، حيث بدأ يتّخذ تلاميذ له. والمُلفت أنه في الآية التي تسبق مباشرة إنجيل اليوم، نسمع يسوع يُردّد الدعوة نفسها التي ردّدها سابقاً يوحنا المعمدان "توبوا، فقد إقترب ملكوت السماوات" (متى 4: 17). وهذا يدلّ بوضوح على أن دعوة الله للإنسان هي "ملكوتيّة" بإمتياز، ويتوجّب على الإنسان التوبة إستعداداً لحلول هذا الملكوت.

-------------------------------------------------

ثانياً – قراءة تأمليّة لإنجيل اليوم:

اليوم تبدأ رحلة يسوع الطويلة، رحلة "صيد البشر"، رحلة "البحث عن الخروف الضال"، رحلة تأسيس "ملكوت السماوات" بدءاً من هذا العالم، وهي رحلة ستوصله يوماً إلى الصليب، الذي لا بدّ منه لكي تكون الحياة الأبديّة لكل من آمن به، ولكي يدخل إبن الإنسان "في المجد الذي كان له من قبل إنشاء العالم"... وقد إختار في بداية كرازته، أن يتّخذ له تلاميذ، يسمعون الكلام العام الذي يُلقيه على الجموع، ويسمعون أيضاً الكلام الخاص الذي سوف يقوله لهم وحدهم، فيكونوا له شهوداً على أقواله وآياته، وصولاً إلى صلبه وقيامته، ويُكملوا رسالته من بعده... اليوم، هو سائر على ضفاف البحيرة، حيث يكثر الصيّادون الذين يرتزقون من مهنة صيد السمك. لن يجد إلا صيّادي سمك في تلك الناحية، وهو عالم بذلك. يرى أخوَين على مقربة من الشاطىء، سمعان (بطرس) وأندراوس إبنَي يونا، وهما يُلقيان شبكتهما. فيبادرهما بالدعوة إلى إتباعه، ويُحدّد لهما هدف هذه الدعوة: "أن يُصبحا صيّادَين للناس"... فيقومان للحال ويتركان كل شيء وراءهما ويتبعانه. يُكمِل الربّ مسيرته بصحبة التلميذَين الأولَين، وإذا به يُصادف أخوَين آخرَين، يعقوب ويوحنا بصحبة أبيهما زبدى (على البَرّ هذه المرّة)، وهما يُصلِحان شباكهما. فيتكرّر الطلب الأول، وتتكرّر معه الإستجابة نفسها، لكن هذه المرّة، إضافةً إلى تركهما الشِباك والسفن، فإنهما يتركان أيضاً أباهما زبدى. بذلك، أصبح لدى يسوع فوج أول من التلاميذ، وإبتدأ من حينه يجول في قرى الجليل، مُبشّراً بملكوت السماوات، مع الآيات (العلامات) التي تصحبه (شفاءات من الأمراض على إختلافها)، مُعطياً بذلك مصداقيةً حسيّةً لتعليمه.

من الناحية "الكتابيّة العلميّة"، وعلى سبيل المقارنة، تجدر الإشارة إلى أن رواية متى الإنجيليّ عن دعوة التلاميذ الأوائل، هي مُشابهة إلى حدّ التطابق مع رواية مرقس (مر 1: 16-20)، غير أن لوقا الإنجيليّ يورد الرواية نفسها (لو 5: 1-11)، لكنه يتوسّع بها مُدخِلاً فيها آية "الصيد العجيب"، التي على أساسها إعترف بطرس علانيةً "بكونه خاطئاً"، وضمنيّاً "بربوبيّة يسوع". إلا أننا نجد عند يوحنا الإنجيليّ روايةً مختلفة كليّاً عن باقي الإنجيليّين لدعوة التلاميذ الأوائل (يو 1: 35-51)، فلا نرى يسوع يدعو صيّادين على شاطىء بحر الجليل لكي يتبعوه، بل نرى بدايةً إثنين من تلاميذ يوحنا المعمدان يتبعان يسوع (بناءً على طلب المعمدان)، وكان أندراوس أحدهما. وعاد هذا، فلقِيَ أخاه سمعان مُعلناً له "لقد وجدنا ماسيّا"، وآتياً به إلى يسوع، الذي أطلق عليه لقب "صفا" (الصخرة). بعدها، سوف يدعو يسوع فيلبّس، ويلتقي فيلبّس نثنائيل ويُعلن له كذلك "لقد وجدنا الذي كتب عنه...". وقد أوردنا هذه المقارنة بين الروايات الإنجيليّة لأجل الفائدة العلميّة، وللدلالة على أن إتباع التلاميذ ليسوع لم يأتِ أبداً من فراغ أو عدم معرفة بشخص يسوع، بل سبقه على الأقل شهادة يوحنا المعمدان أمام تلاميذه "هوذا حمل الله...".

مهما يكن من أمر، إن يسوع يبدأ اليوم كرازته "الملكوتيّة"، ونراه يوجّه الدعوة لبعض الأشخاص من أجل إِتّباعه، كي يُصبحوا تلاميذ له وفوق ذلك "صيّادي بشر" (حرفيّاً). إنه يُحدّد منذ البداية هدف هذه الدعوة، وهي دعوة خاصة جداً. سوف يظلّون "صيّادين"، أي المهنة نفسها، لكنهم سوف ينتقلون إلى الصيد في "بحار أخرى"، وبأبعاد مغايرة كليّاً، بعد أن يختم "الصيّاد الأكبر" رسالته على الأرض. وسوف تكون كلمة الله هي الشبكة الجديدة التي تجمع "الأسماك" على أنواعها ومن كل "بحار" (أصقاع) الأرض.

وهنا، لا بدّ من التوقّف عند ثلاث ملاحظات:

* الأولى هي أن هذه الدعوة لإتباع يسوع هي صورة لدعوته إلى كل منا، فكلّنا بالأساس مدعوّ بالمعنى الواسع للكلمة. وإننا كمسيحيّين، "إذ قد إعتمدنا بالمسيح، قد لبسنا المسيح". فالهويّة المسيحيّة هي بحدّ ذاتها دعوة إلى الحياة في المسيح والشهادة له بحياتنا. إن الشهادة الحياتيّة اليوميّة، خصوصاً بالعلامة الفارقة لتلاميذ السيّد (محبّة بعضهم البعض)، هي بحدّ ذاتها كفيلة بتكرار "الصيد العجائبيّ" للبشر، وهذه دعوة عامة يشترك بها "جسد المسيح السريّ"، الذي هو الكنيسة.

* الثانية (والمُرتبِطة بالأولى)، هي أن هناك دعوةً خاصةً لبعض الأشخاص من أجل حمل البشارة والتكرّس الحياتيّ لهذا الهدف. وفي هذا الإطار، يحمل هؤلاء الأشخاص المدعوّين للتكرّس، مسؤوليّة أكبر من سائر المؤمنين، لأنهم مؤتمنون على إيصال "كلمة الحياة" والأسرار إلى "جسد المسيح السرّيّ"، وإلى باقي الخليقة التي لم تصل إليها بُشرى الخلاص. وهناك تنوّع في الدعوات حسب مواهب كل شخص "فهناك معلّمون وهناك أنبياء..." (كما يقول بولس الرسول)، وحسب مقاصد الله.

* الثالثة، هي أن الربّ لم يتوجّه بدعوته هذه، لعلماء في الناموس أو لفقهاء في العلوم المُختلِفة في ذلك العصر أو لأصحاب مقامات عالية الشأن، بل دعا أناساً بُسطاء من المُجتمع العاديّ، أناساً "غير متفلسِفين"، لا مراكز إجتماعيّة وسياسيّة يتعلّقون بها، لا أموال ولا مُمتلكات أرضيّة يخافون عليها... وهذا ما يريده يسوع، لأنه هو نفسه من الطبقة الشعبيّة "ليس له موضع يُسند إليه رأسه" (متى 8: 20)، ولأن الرسالة السامية التي سوف يباشر بها، تتطلّب تخلّياً كبيراً، قد يصل إلى حد إخلاء الذات بالكامل، وهذه كانت مسيرة السيّد له المجد "إذ أخلى ذاته آخذاً صورة العبد..." (في 2: 7). ونرى اليوم الصيّادين الذين إستجابوا لدعوة يسوع، قد تركوا كل شيء (وهم أصلاً لم يكونوا يملكون الكثير)، وحتى الروابط العائليّة، من أجل إتباع يسوع.

------------------------------------------------

ثالثاً – الخُلاصة الروحيّة:

لم يفهم التلاميذ طوال فترة كرازة يسوع البُعد الحقيقيّ للكثير من أقواله، فقد تركوا كل شيء وتبعوه، تركوا صيد السمك كما أن البعض ترك أباه... وساروا وراءه، غير مُدرِكين فعليّاً إلى أيّ "بحر" يتوجّهون وأيّ "سمك" سيصطادون. غير أنهم فهموا كل شيء فيما بعد على ضوء القيامة أولاً، ولكن خصوصاً على ضوء الروح القدس الذي أنارهم وذكّرهم بكل ما قال وفعل الربّ يسوع أثناء تدبيره على الأرض. فما أن حلّ الروح القدس عليهم حتى دبّت الحياة في الجماعة الأولى، وكانت خطبة بطرس الأولى خير شاهد على "الصيد العجائبيّ" في ذلك اليوم المجيد.

في أحد "دعوة الرسل الأوائل"، نتأمل بدعوتنا نحن، أولاً كمسيحيين إذ علينا أن نحمل هذه الهويّة بالفعل لا "على التذكرة"، فنحيا بموجبها لأن دعوة الربّ لنا هي دعوة إلى الحياة الشاهدة على محبّة الله للبشر. وإن كنا مُكرّسين، فالمسؤوليّة مُضاعفة لأن "من يُعطى الكثير، سوف يُطلب منه الكثير". وإن العالم بأسره هو "البحر" الواسع المليء ب"الأسماك"، التي تنتظر "شبكة" بُشرى الخلاص، كي تمتدّ إليها وتحوي في طياتها أكثر بكثير من "مئة وثلاثة وخمسين" (يو 21: 11).

بقلم توفيق ناصر (خريستوفيلوس)

 

 

وسوم: